الْفَنَاءَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ هُوَ غَايَةُ السُّلُوكِ، وَنِهَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَسَاعَدَهُ اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ، الرَّادِّينَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي الْأَسْبَابِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَا فِيهَا قُوًى، وَلَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا بِشَيْءٍ وَلَا شَيْئًا لِشَيْءٍ، فَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي أَفْعَالِهِ بَاءُ سَبَبِيَّةٍ، أَوْ لَامُ تَعْلِيلٍ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَمَلُوا الْبَاءَ فِيهِ عَلَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ، وَاللَّامَ فِيهِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، وَقَالُوا: يَفْعَلُ اللَّهُ الْإِحْرَاقَ وَالْإِغْرَاقَ وَالْإِزْهَاقَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّارِ، وَالْمَاءِ وَالْحَدِيدِ، لَا بِهِمَا، وَلَا بِقُوًى فِيهِمَا، وَلَا فَرْقَ - فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - بَيْنَ النَّارِ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْخَشَبِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ، وَمَحَلُّ جَرَيَانِ تَصَارِيفِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ سِوَاهُ، وَالْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ، فَهُوَ تَلْبِيسٌ.
فَهَذِهِ الْأُصُولُ: أَوْجَبَتْ هَذَا التَّلْبِيسَ عَلَى نُفَاةِ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ، فَمَزَّقُوا لُحُومَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَفَرَّقُوا أَدِيمَهُمْ، وَقَالُوا: عَطَّلْتُمُ الشَّرَائِعَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ، وَأَبْطَلْتُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ قُدَرَهُمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَدَوَاعِيَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَفْعَالُهُمْ وَاقِعَةٌ بِحَسَبِ دَوَاعِيهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، عَلَى ذَلِكَ قَامَتِ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ، وَالثَّوَابُ، وَالْعِقَابُ، وَالْحُدُودُ، وَالزَّوَاجِرُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَالْحَيَوَانَ، وَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُخْتَارِ وَحَرَكَةِ مَنْ تَحَرَّكَ قَسْرًا بِغَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ أَبَدًا، وَلَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَحَرَكَاتِ ابْنِ آدَمَ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَطَاعَتَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ أَفْعَالًا لَهُ، بَلْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤] وَقَالَ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: ٤١] وَقَالَ سَادَاتُ الْعَارِفِينَ بِهِ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: ١٢٨] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِهِ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم: ٤٠] فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ، وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَأَسْلَمَ، وَهُوَ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً، يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَاعِلًا، وَهُوَ السَّائِرُ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: ٢٢] فَهَذَا فِعْلُهُ، وَالسَّيْرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute