(٢) وأنقل هنا كلاماً مهماً لابن رجب رحمه الله في تعليقه على هذه الأحاديث التي سبق ذكرها في مسألة إثبات معية الله الخاصة لعبده في صلاته، كما قال بها السلف الصالح، وقد سبق نقل بعض كلامه، واعتذر من طول النقل لكنه مهم في بابه، فيقول رحمه الله: " وكأن مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر هذا: أن يستشعر المصلي في صلاته قرب الله منه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وانه مناج له وانه يسمع كلامه ويرد عليه جواب مناجاته له. كما في ((صحيح مسلم))، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أن العبد إذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي)) - وذكر رده عليه في آيات الفاتحة إلى آخرها. فمن استشعر هذا في صلاته أوجب له ذلك حضور قلبه بين يدي ربه، وخشوعه له، وتأدبه في وقوفه بين يديه، فلا يلتفت إلى غيره بقلبه ولا ببدنه، ولا يعبث وهو واقف بين يديه، ولا يبصق أمامه، فيصير في عبادته في مقام الإحسان، يعبد الله كأنه يراه، كما فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإحسان بذلك في سؤال جبريل عليه السلام له .. وخرج النسائي من حديث ابن عمر، قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي، فقال: " اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" وقد كان ابن عمر قبل هذه الوصية وامتثلها، فكان يستحضر في جميع أعماله وعباداته قرب الله منه واطلاعه عليه. وكان عروة بن الزبير قد لقيه مرة في الطواف بالبيت فخطب إليه ابنته سودة، فسكت ابن عمر ولم يرد عليه شيئاً، ثم لقيه بعد ذلك بعدما تقدم المدينة، فاعتذر له عن سكوته عنه، بأنا كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. وقد أخبر الله تعالى بقربه ممن دعاه، وإجابته له، فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: ١٨٦] .. وقد خرج البخاري في ((الدعوات)) حديث أبي موسى، أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا". وفي رواية: ((أنه أقرب إليكم من أعناق رواحلكم)). ولم يكن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يفهمون من هذه النصوص غير المعنى الصحيح المراد بها، يستفيدون بذلك معرفة عظمة الله وجلاله، وإطلاعه على عباده وإحاطته بهم، وقربه من عابديه، وإجابته لدعائهم، فيزدادون به خشية لله وتعظيماً وإجلالاً ومهابة ومراقبة واستحياء، ويعبدونه كأنهم يرونه. ثم حدث بعدهم من قل ورعه، وساء فهمه وقصده، وضعفت عظمة الله وهيبته في صدره، وأراد أن يري الناس امتيازه عليهم بدقة الفهم وقوة النظر، فزعم أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان، كما يحكى ذلك عن طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة -رضي الله عنهم-. وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه. وتعلقوا أيضاً بما فهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: ٧]، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن. وممن قال: أن هذه المعية بالعلم مقاتل بن حيان، وروي عنه أنه رواه عن عكرمة، عن ابن عباس. وقاله الضحاك، قال: الله فوق عرشه، وعلمه بكل مكان. وروي نحوه عن مالك وعبد العزيز الماجشون والثوري وأحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة السلف. وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن نافع، قال: قال مالك: الله في السماء، وعلمه بكل مكان. وروي هذا المعنى عن علي وابن مسعود أيضاً. وقال الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: ٦٠]، قال: علمه بالناس. وحكى ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء من الصحابة والتابعين في تأويل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: ٤] أن المراد علمه. وكل هذا قصدوا به رد قول من قال: أنه تعالى بذاته في كل مكان … " أ. هـ. بطوله مع بعض الاختصار من شرح صحيح البخاري المسمى: فتح الباري لابن رجب (٣/ ١١٠ - ١١٤)، وتعليقه على هذه المسألة طويل، لكنه مهم فمن أراد أن يطلع عليه كاملاً فليرجع إلى المصدر المذكور.