للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والذي جاهد نفسه لتفريغ قلبه لله في صلاته وصبر على ذلك واستمر دون كلل ولا ملل رزقه الله الخشوع والتلذذ بصلاته ولو بعد حين من الزمن، قال ثابت البناني رحمه الله: "كابدت (١) الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة" (٢).

والذي يظهر لي أن العبد إذا أقبل على مناجاة ربه في صلاته واستشعر عظمة الموقف بين يدي ربه وخشع قلبه وأقبل على صلاته بقلبه ووجهه، وجاهد نفسه في تفريغ قلبه لله بقدر وسعه، فإنه سيجد من اللذة بقدر ذلك وفضل الله عظيم وواسع.

أما أولئك القوم مثل ثابت البناني وغيره من السلف يريدون وجود اللذة الكاملة من أول الصلاة إلى آخرها وفي كل صلاة وهذه مرتبة عالية لا يصل إليها إلا من بذل جهداً عظيماً في حصول الخشوع، والله أعلم.

[المسألة الرابعة: الشعور بمناجاته لله وأنه مطلع عليه عالم بسره وجهره يسمعه ويراه.]

أولاً: اليقين بأن الله مطلع عليه عالم بسره ونجواه:

إذا رسخ في قلب العبد اليقين بأن الله عالم بسره ونجواه، وأنه يناجي ربه في الصلاة، خاف من ربه وخشي أن يطلع على قلبه، فيراه منشغلاً عنه في أثناء صلاته بغيره، وهذا يجعله يستحي من ربه ويخشى من مقته إذا انصرف إلى غيره في صلاته، وكل ذلك لا شك مما يزيد خشوعه وحضور قلبه في صلاته وتفريغه لله، فهو يعلم يقيناً أن الله مطلع عليه عالم بالسر والنجوى، لا تخفى عليه خافية، ويشعر أنه في أعظم المواقف بين يدي ربه يناجيه في صلاته، وكما في الحديث الذي سبق، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي إِنَّمَا يَقُومُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يُنَاجِيهِ".

وهذه بعض الأدلة على إثبات سمعه وعلمه المحيط بكل شيء، قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: ٧٦]. وبقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} التوبة: ٧٨


(١) والمكابدة من كابد الأمر إذا قاساه بمشقة. ينظر: الصحاح (٢/ ٥٣٠)، مقاييس اللغة (٥/ ١٥٣)، لسان العرب (٣/ ٣٧٦) مادة (كبد). أي: بمعنى: جاهد نفسه على بذل أسباب الخشوع فيها.
(٢) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (٢/ ٣٢١)، سير أعلام النبلاء (٥/ ٢٢٤).

<<  <   >  >>