للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اختيارًا لِيُتأسَّى، وهو يرى هزَّ الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: «كان يرجِّع في قراءته» فنسَب الترجيع إلى فعله. ولو كان من هزّ الراحلة لم يكن منه فعلٌ يسمّى ترجيعًا.

وقد استمع ليلةً لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: «لو كنتُ أعلم أنَّك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا»، أي حسَّنتُه وزيَّنتُه بصوتي تزيينًا.

وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد: مرَّ بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فإذا رجلٌ رثُّ الهيئة. فسمعته يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن». قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسَن الصوت؟ قال: يحسِّنه ما استطاع.

-وتوسع رحمه في نقل أقوال أهل العلم في مسألة التغني والتطريب في قراءة القرآن، ثم قال رحمه الله في خاتمة هذه المسألة مرجحاً ومفصلاً للقول الراجح: "وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين:

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به، من غير تكلُّف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خُلِّي وطبعَه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز، وإن أعان طبيعتَه فضلُ تزيين وتحسين كما قال أبو موسى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو علمتُ أنَّك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا». والحزين ومن هاجه الطربُ والحبُّ والشوقُ لا يملك من نفسه دفعَ التحزين والتطريب في القراءة، ولكنَّ النفوس تقبله وتستحليه وتستملحه لموافقة الطبع وعدم التكلُّف والتصنُّع فيه، فهو مطبوع لا متطبِّع، وكلِفٌ لا متكلِّف. فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغنِّي الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثَّر به التالي والسامع. وعلى هذا الوجه تُحمَل أدلَّةُ أرباب هذا القول كلُّها.

الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعةً من الصنائع، ليس في الطبع السماحةُ به، بل لا يحصل إلا بتكلُّف وتصنُّع وتمرُّن، كما يتعلَّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركَّبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلُّم والتكلُّف. فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذمُّوها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. وأدلَّةُ أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.

<<  <   >  >>