د- فلما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} {الأنبياء: ٢}، فجمع بين ذكرين: ذكر الله، وذكر نبيه. فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجر عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} {العنكبوت: ٤٥}. {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} {الأنبياء: ٥٠}، وإذا انفرد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جرى عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} {الصافات: ٩٦}. فذكر النبي صلى الله عليه وسلم له عمل، والله له خالق محدث، والدلالة على أنه جمع بين ذكرين لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} {الأنبياء: ٢}، فأوقع عليه الحدث عنه إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلغ ومذكر، وقال الله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {الذاريات: ٥٥}، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} {الأعلى: ٩}، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} {الغاشية: ٢١}. فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه الخلق وكان أولى بالحدث من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم خلق، ولاحدث، فوجدنا دلالة من قول الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} {الأنبياء: ٢} إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لايعلم فعلمه الله. فلما علمه الله كان ذلك محدثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر الرد على الجهمية للإمام أحمد من ص ١٢٢ - ١٢٥. ثانياً: وقال ابن تيمية - رحمه الله - مفنداً احتجاج الجهمية في هذه الآية: «وإن احتج بقوله: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث)، قيل له: هذه الآية حجة عليك؛ فإنه لما قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} علم أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل طعاماً حلالا ونحو ذلك، ويعلم أن المحدث في الأية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي، ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل القرآن شيئا بعد شيء، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبه إلى المنزل آخراَ. وكل ماتقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كما قال: {عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقال: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} وقال: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} ١٢/ ٥٢١ - ٥٢٢. ثالثاً: وقال ابن كثير في بيان معنى الآية عند تفسيره للآية رقم (٢) من سورة الأنبياء: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)} ثم أخبر تعالى أنهم لايصغون إلى الوحي الذي أنزله الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار، فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، أي: جديد إنزاله {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، كما قال ابن عباس: مالكم تسألون أهل الكتب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه، وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرأونه محضا لم يشب، رواه البخاري بنحوه.