للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وقد تقدَّم ذكرُ الآثار التي فيها أنَّ السيِّئة تمحى من صُحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها. قال عطيَّة العَوفي (١): بلغني أنَّه من بكى على خطيئة مُحيت عنه، وكُتِبت له حسنة (٢). وعن عبد الله بن عمرو، قال: من ذكر خطيئةً عَمِلَها، فوَجِلَ قلبُه منها، فاستغفر الله - عز وجل - لم يحبسها شيءٌ حتى يمحوها عنه الرَّحمان. وقال بِشْرُ بنُ الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض قال: بكاءُ النَّهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاءُ اللَّيل يمحو ذنوبَ السرِّ. وقد ذكرنا قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

: «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» (٣) الحديث.

وقالت طائفة: لا تُمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبةٍ ولا غيرها، بل لابُدَّ

أنْ يُوقف عليها صاحبُها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقولِهِ تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (٤)، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر؛ لأنَّه إنَّما ذكر فيها حال المجرمين، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة، فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم. وأظهرُ من هذا الاستدلالُ بقولِهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (٥)، وقد ذكر بعضُ المفسرين أنَّ هذا القول هوَ الصحيحُ عندَ المحققين، وقد روي هذا القولُ عن الحسن البصري، وبلال بن سعد الدمشقي، قالَ الحسن: في العبدُ يذنب، ثُمَّ يتوبُ ويستغفِرُ: يُغفر لهُ، ولكن لا يُمحاه من كتابه دونَ أنْ يَقِفَه عليهِ، ثُمَّ يسأله عنه، ثم بكى الحسن بكاءً شديداً، وقال: لو لم نَبكِ إلاَّ للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي.

وقال بلالُ بن سعد: إنَّ الله يغفرُ الذنوبَ، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يُوقِفَهُ عليها يومَ القيامة وإنْ تاب (٦).


(١) هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي، الجدلي الكوفي توفي سنة (١١١ هـ ‍).
انظر: تهذيب الكمال ٥/ ١٨٤ (٤٥٤٥)، وسير أعلام النبلاء ٥/ ٣٢٥.
(٢) أخرجه: ابن أبي الدنيا في " الرقة والبكاء " (٢٣) و (٢٤).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) الكهف: ٤٩.
(٥) الزلزلة: ٧ - ٨.
(٦) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٥/ ٢٢٦.

<<  <   >  >>