للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فأمَّا ما انتفى فيه ذلك كلُّه، فهُنا يُستدلُّ بعدم ذكره بإيجابٍ أو تحريمٍ على أنَّه معفوٌّ عنه، وهاهنا مسلكان:

أحدهما: أنْ يُقال: لا إيجابَ ولا تحريمَ إلاَّ بالشَّرع، ولم يوجب الشَّرعُ كذا، أو لم يحرِّمه، فيكونُ غيرَ واجبٍ، أو غير حرامٍ، كما يقال مثلُ هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأُضحية، أو نفي تحريم الضَّبِّ ونحوه، أو نفي تحريم بعض العُقود المختلف فيها، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، ويرجعُ هذا إلى استصحاب براءةِ الذِّمَّةِ حيث لم يُوجَدْ ما يدلُّ على اشتغالها، ولا يصْلُحُ هذا الاستدلالُ إلاَّ لمن عرف أنواعَ أدلَّة الشَّرع وسبرَهَا، فإنْ قطع - مع ذلك - بانتفاء

ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم، كما يقطع بانتفاء فرضية صلاةٍ سادسةٍ، أو صيام شهر غير شهر رمضان، أو وجوب الزَّكاة في غير الأموال الزَّكويَّة، أو حَجَّةٍ غير حجَّةِ الإسلام، وإنْ كان هذا كلُّه يستدلُّ عليه بنصوصٍ مصرِّحةٍ بذلك، وإنْ ظنَّ انتفاء ما يدلُّ على إيجابٍ أو تحريمٍ، ظنَّ انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع.

والمسلك الثاني: أنْ يذكر مِنْ أدلَّة الشَّرع العامة ما يدلُّ على أنَّ ما لم يوجبه الشَّرع، ولم يحرِّمه، فإنَّه معفوٌّ عنه، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من الأحاديث المذكورة معه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عنِ الحجِّ أفي كلِّ عام؟ فقال:

«ذروني ما تركتُكم، فإنَّما هلك مَنْ كان قَبلَكم بكثرةِ سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعتم» (١).

ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقَّاص: «إنَّ أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يحرَّم، فحرِّم من أجل مسألته» (٢).

وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ هذا أيضاً في مواضعَ، كقوله - عز وجل -: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (٣)، فإنّ هذا يدلُّ على


(١) سبق تخريجه. انظر: الحديث التاسع.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) الأنعام: ١٤٥.

<<  <   >  >>