للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا قريب مما قبله، إلاَّ أنَّه جعل الدَّرجةَ الأُولى مِنَ الزُّهدِ الزُّهدَ في

الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل، وهو الشِّركُ الأصغر، والحاملُ عليه محبَّةُ المدح في الدُّنيا، والتقدُّم عند أهلها، وهو مِنْ نوعِ محبَّةِ العلوِّ فيها والرياسة.

وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهدٌ فرضٌ، وزهدٌ فضلٌ، وزهدٌ سلامةٌ، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، والزهدُ السلامةُ: الزُّهد في الشبهات (١).

وقدِ اختلفَ الناسُ: هل يستحقُّ اسمَ الزاهد مَنْ زَهِدَ في الحرام خاصَّةً، ولم يزهد في فضول المباحات أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنَّه يستحقُّ اسمَ الزهد بذلك، وقد سبق ذلك عَنِ الزُّهري وابن عيينة وغيرهما.

والثاني: لا يستحقُّ اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح، وهو قولُ طائفة من العارفين وغيرهم، حتى قال بعضهم: لا زُهْدَ اليوم لفقد المباح المحض، وهو قول يوسف بن أسباط (٢) وغيره، وفي ذلك نظر. وكان يونس بن عبيد يقول: وما قدر الدُّنيا حتى يُمدَح من زهد فيها؟

وقال أبو سليمان الداراني: اختلفوا علينا في الزُّهد بالعراق، فمنهم من قال: الزُّهد في ترك لقاءِ النَّاسِ، ومنهم من قال: في ترك الشَّهواتِ، ومنهم من قال: في ترك الشِّبَعِ، وكلامهم قريبٌ بعضُه مِن بعضٍ، قال: وأنا أذهبُ إلى أنَّ الزُّهدَ في ترك ما يشغلُك عن الله - عز وجل - (٣)، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمعُ جميعَ معاني الزُّهد وأقسامه وأنواعه.

واعلم أنَّ الذمَّ الوارد في الكتاب والسُّنَّة للدُّنيا ليس هو راجعاً إلى زمانها الذي هو اللَّيل والنَّهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإنَّ الله جعلهما خِلفَةً لمن أراد أنْ يذَّكَّرَ أو أراد شكوراً. ويُروى عن عيسى - عليه السلام - أنَّه قال: إنَّ هذا الليل والنهار خزانتان، فانظُروا ما تضعُون فيهما، وكان يقول: اعملوا اللَّيل لما خلق له، والنَّهار لما خلق له.


(١) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٨/ ٢٦ و ١٠/ ١٣٧. …
(٢) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٨/ ٢٣٨ بنحوه.
(٣) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٩/ ٢٥٨.

<<  <   >  >>