للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

القسم الثاني: العزائم المصممة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنُها صاحبُها، فهذا أيضاً نوعان:

أحدهما: ما كان عملاً مستقلاً بنفسه من أعمالِ القلوب، كالشَّكِّ في الوحدانية، أو النبوَّة، أو البعث، أو غير ذلك مِنَ الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كلّه يُعاقَبُ عليه العبدُ، ويصيرُ بذلك كافراً ومنافقاً. وقد رُوي عن ابن عباس أنَّه حمل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} (١)، على مثل هذا (٢). وروي عنه حملُها على كتمان الشَّهادة لِقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (٣).

ويلحق بهذا القسم سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلوب، كمحبة ما يُبغضهُ الله،

وبغضِ ما يحبُّه الله، والكبرِ، والعُجبِ، والحَسدِ، وسوءِ الظَّنِّ بالمسلم من غير

موجِب، مع أنَّه قد رُوي عن سفيان أنَّه قال في سُوء الظَّنِّ إذا لم يترتب عليه قولٌ أو فعلٌ، فهو معفوٌّ عنه. وكذلك رُوي عنِ الحسن أنه قال في الحسد، ولعلَّ هذا محمولٌ من قولهما على ما يجدُه الإنسانُ، ولا يمكنهُ دفعُه، فهو يكرهُه ويدفعُه عن نفسه، فلا يندفعُ إلاَّ على ما يساكِنُه، ويستروِحُ إليه، ويُعيدُ حديثَ نفسه به ويُبديه.

والنوع الثاني: ما لم يكن مِنْ أعمال القلوب، بل كان من أعمالِ الجوارحِ، كالزِّنى، والسَّرقة، وشُرب الخمرِ، والقتلِ، والقذفِ، ونحو ذلك، إذا أصرَّ العبدُ على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يَظهرْ له أثرٌ في الخارج أصلاً. فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء:

أحدهما: يؤاخذ به، قال ابنُ المبارك: سألتُ سفيان الثوريَّ: أيؤاخذُ العبدُ

بالهمَّةِ؟ فقال: إذا كانت عزماً أُوخِذَ (٤). ورجَّح هذا القولَ كثيرٌ من الفُقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين من أصحابنا وغيرهم، واستدلوا له بنحو قوله - عز وجل -:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (٥)، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (٦)، وبنحو قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الإثمُ ما حاكَ في صدركَ، وكرهتَ


(١) البقرة: ٢٨٤.
(٢) أخرجه: الطبري في " تفسيره " (٥٠٨٣).
(٣) البقرة: ٢٨٣.
(٤) ذكره ابن حجر في " فتح الباري " ١١/ ٣٩٨.
(٥) البقرة: ٢٣٥.
(٦) البقرة: ٢٢٥.

<<  <   >  >>