للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله: القراء: أي الذين يقرؤون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ: قراء إشارة إلى هذا فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن رسول الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح

قال - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي".

فلما بعد النقل - من لدن دولة الرشيد فما بعد - احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في: الاستنباطات والاستخراج والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى وهي وسائل لها من: معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها والحضر لذلك العهد هم: العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من: الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو: سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفنا لمن بعدهم وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما - كما يعرف - وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس".

وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع والرؤساء - أبدا - يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين وما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم في: الملك والسياسة وهذا الذي قررناه: هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم.

وأما العلوم العقلية أيضا: فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم - شأن الصنائع كما قلناه أولا - فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من: العراق وخراسان وما وراء النهر فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول

<<  <   >  >>