للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر - كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق - وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس.

ولهذا قلنا: إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر: بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة وفي المنثور: يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال فلهذا كان فن تأليف الكلام منفردا عن نظر النحوي والبياني والعروضي نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها: أساليب ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا.

وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو؟ فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا الغرض فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه.

وقول العروضيين في حده: إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر: هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به فقولنا: الكلام البليغ جنس وقولنا: المبني على الاستعارة والأوصاف فصل عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر وقولنا: المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل وقولنا: مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء وقولنا: الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا وبهذا الاعتبار كان الكثير من أهل هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من

<<  <   >  >>