للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمم عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب وغيرهم ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول: مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة.

وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول:

اعلم: أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا:

أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل: ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري١ والرضي وأبي فراس وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط واجتناب الشعر أولى ممن لم يكن له محفوظ ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ.

وربما يقال: إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادة عن استعمالها بعينها فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستثارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء الجمام.

وربما قالوا: إن من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق٢ في كتاب العمدة وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.

قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيهاكما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو بنات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة وقد حظر


١ ابن أوس، وهو أبو تمام الطائي.
٢ سبق تعريفه في ص١٥٤.

<<  <   >  >>