للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أئمة اللسان عن المولد وارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن ولهذا كان شيوخنا - رحمهم الله - يعيبون شعر أبي إسحاق بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية - كما مر - فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقعر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة ويبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك.

وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء١ ويجف بالترك والإهمال.

وبالجملة: فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك وهذه نبذة كافية والله المعين٢.


١ في هامش الأصل: "مرى الناقة يمريها: مسح ضرعها. وأمرت هي: درً لبنها، وهي المرية بالضم والكسر، ومرى الشيْ: استخرجه كامتراء" "القاموس".
٢ آخر كلام ابن خلدون.

<<  <   >  >>