رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم
وأما أهل إفريقية: فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته.
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي١ في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس: قال لأن الشعر ديوان
١ هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، ابن العربي، قاض من حفاظ الحديث ولد في إشبيليه ورحل إلى الشرق، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وبرع في الأدب. له مصنفات كثيرة في الحديث والفقة والأصول والأدب والتاريخ، هو غير محيي الدين ابن العربي: ٤٦٨-٥٤٣هـ = ١٠٧٦-١١٤٨م.