إن إيراد الأدلة للعامي لا يخرجه عن دائرة التقليد من الناحية الفقهية البحتة.؛ لأن المفتى يورد الدليل مورداً يجعله منتجاً للحكم الذي قال به، وذهب إليه، ولا يملك المستفتى إلا تقليده في هذا الفهم، فالتقليد كما يكون في الحكم يكون في فهم دليل الحكم، ومجرد المعرفة بالدليل لا تخرج عن ربقة ... التقليد، ذلك أن المعرفة المعتبرة بالدليل، والتي تخرج عن نطاق التقليد، هي التي يغلب معها الظن بحصول المقتضي وعدم المانع ..
أما ما ورد من عبارات الأئمة في النهي عن تقليدهم ـ حتى يحتاط المرء لدينه ـ فهي حق، ويجب أن تنزل على منازلها الصحيحة.، فهي تنهى الناس عن اتباعهم فيما قامت الأدلة على خلافه، وهي تنهى أمثالهم من المجتهدين عن تقليدهم، لأن عليهم أن يأخذوا من حيث أخذوا، وتنهي أكابر أصحابهم وتلاميذهم من العلماء عن تقليدهم كذلك، حثاً لهم على دوام النظر في مدارك أقوالهم، ليعلموا ـ بما تبين لهم ـ أنه حق، حسبما يقتضيه اجتهادهم، وضماناً لحيوية الفقه الإسلامي، وعدم إصابته بالجمود، أو تخلفه عن الوفاء بالمصالح المتجددة.
ومما يدل على هذا التخصيص، وعلى أن العامة غير مخاطبين بهذه المقالات، ما نقل عن هؤلاء الأئمة أنفسهم، وغيرهم من أهل العلم، من ذلك:
ما قاله الإمام مالك رحمه الله:" يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام، كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة "