للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قنسرين فخرج إلى شمشاط، فلما نزل المسلمون في الرها خرج منها، وسار على الدرب نحو القسطنطينية بعد أن رفض سكان الجزيرة مؤازرته أبعد من ذلك، ولما حاذى سوريا وقف على تل مرتفع، والتفت إليها وقال: "قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، أما اليوم عليك السلام يا سوريا تسليم المفارق، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدًا، ولا يعود إليك رومي أبدًا إلا خائفًا حتى يلود المولود المشئوم وليته لا يولد، عليك يا سوريا السلام، ونعم البلد هذا للعدو"١، ويعبر هذا الوداع عن خيبة أمله الشخصية، ويشير إلى نهاية التورط العسكري البيزنطي في المنطقة، والواضح أنه فضل سلوك الطريق البري إلى القسطنطينية في محاولة منه لتأمين الأطراف الشرقية لآسيا الصغرى، حتى لا ينفذ المسلمون إلى عمق أراضيه، كما دمر التحصينات في المنحدرات الجنوبية لجبال طوروس بين الإسكندرونة، وطرسوس لخلق منطقة عازلة مهدمة فارغة لا تصلح للقتال، على أساس أنها منطقة للدفاع العمقي إزاء المسلمين، وأخذ سكانها معه إلى الداخل البيزنطي، ولا شك في أن هذه التصرفات من جانبه تدل على أنه يئس تمامًا من أمر الشام، وأدرك أنه لن يستطيع أن يفعل مع المسلمين مثلما فعله مع الفرس من قبل بإقامة التحصينات الدفاعية لتمتص غاراتهم٢.

سياسة هرقل في شمالي بلاد الشام بعد معركة اليرموك:

الواضح أن هرقل لم يحاول أن يدافع عن المدن الشمالية إزاء هجمات المسلمين، بعد معركة اليرموك، إذ إنه لم يشأ أن يخسر مزيدًا من رجاله الأشداء المدربين في سبيل الحفاظ على بعض المدن الشامية، وفضل الاحتفاظ بهم للدفاع عن الأناضول، ولعل الشلل البيزنطي في جنوبي بلاد الشام أقنعه بالمخاطر التي تلازم وضع أعداد كبيرة من قواته للدافع عن المدن في أوضاع عسكرية مكشوفة نسبيًا، كما أنه فقد الرغبة في أن يجازف بمواجهة دموية أخرى إلى الجنوب من جبال طوروس، وفضل أن يتخلى عن الأراضي ليقلل درجة التآكل في قواته، ويمكنها من البقاء والتعافي، وأتاح هذا التوجه الانهزامي، للمسلمين أن يجتاحوا شمالي بلاد الشام، وإقليم الجزيرة الفراتية وصولًا إلى أرمينية.


١ البلاذري: ص١٤٢، الطبري: ج٣ ص٦٠٣.
٢ عاشور، سعيد عبد الفتاح: الإمبراطور هرقل، ومقاومة الفتح الإسلامي لبلاد الشام، بحث في كتاب المؤتمر الدولي الرابع لبلاد الشام ص٢١٧.

<<  <   >  >>