للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: ١٤] ، وقد نزلت هذه الآية في وقت أخذ الكثير من القبائل تسارع عبر وفودها للدخول في الإسلام١.

وكان النبي قد شعر بما تنعم به هذه القبائل من حرية العيش، فتركها تعيش حياتها الخاصة مع الالتزام بالإسلام، لذلك لم تفقد شيئًا من حريتها السياسية، ولم يكن الحكم الإسلامي عليها يتجاوز العهود التي ارتبطت بها مع النبي التي لم تكن في نظرها سوى حلقًا، أو عقدًا مع شخص النبي نفسه لدوافع، وشروط معينة، فرضتها ظروف خاصة نشأت عن اتحاد قريش تحت رايته، وبوفاة الشخص المتعاقدة معه تنتهي آليًا صلاحية العقد إن لم يتم البت فيه مجددًا مع شخص آخر.

تذكر الروايات التاريخية أن ممثلي أسد، وغطفان وطيء اجتمعوا، بعد وفاة النبي وأرسلوا وفدًا مفاوضًا عنهم إلى المدينة مطالبين بإعفائهم من الزكاة، استقبل أبو بكر الوفد استقبالًا حسنًا، لكنه رفض طلبهم بترك الزكاة رفضًا قاطعًا على الرغم من أنهم أكدوا عزمهم على الاستمرار في الدين والصلاة، ولما عادوا خائبين من المدينة ارتدوا، والتحقوا بالمتنبئ طليحة الأسدي٢، وما يصح على هذه القبائل يصح أيضًا على الأكثرية الساحقة من القبائل مثل كندة، وقضاعة وهوازن وغيرهم، حيث أعلنوا ارتدادهم، وفضوا عقودهم مع النبي، واستقلوا بأنفسهم.

ويبدو أن هذه القبائل التي ارتدت لم تكن تعلم ما يفرضه الدين الإسلامي عليها من واجبات، والتزامات وفروض ربما كانت غير طبيعة في نظرها، وكان معنى ذلك الخروج عما ألفت، وتغيير جذري في مجرى حياتها الدينية والاجتماعية، والحد من حريتها، وسرعان ما ضاقت ذرعًا بالواجبات التي فرضها الإسلام عليها، وبخاصة الزكاة، ورأت فيها انتقاصًا من حريتها الشخصية والجماعية، كما أوجدت نوعًا من الشعور بالإذلال لم تألفه هذه القبائل مما يتعارض مع كبرياء العربي، وأنفته على الرغم من الإسلام لم يعد الجزية أتاوة يدفعها المغلوب للمنتصر، فامتنعت عن دفع الزكاة لأبي بكر.

هذه كانت، على ما يبدو، نظرة القبائل للأمور، هذه النظرة التي لا يمكن عزلها عن أحداث الردة، وهكذا يتضح لنا كيف أن أحداث الردة كانت بهذا المعنى جزءًا لا يتجزأ من التزكية السياسية للأمة الإسلامية نفسها، وكشفت هذه الحركة بوضوح عن


١ انظر تفسير ابن كثير: ج٤ ص٢١٨، ٢١٩.
٢ الطبري: ج٣ ص٢٥٨.

<<  <   >  >>