للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الطابع التاريخي الملموس للكيان السياسي الذي أسسه النبي، ووطده عبر سنوات طويلة من الممارسة السياسية العملية.

وأدى العامل الأجنبي دورًا آخر في تحريك البواعث التي أدت بدورها إلى انتفاضة العرب وردتهم، ذلك أن إرسال النبي الكتب إلى المملوك، والأمراء المجاورين، ومن بينهم عاهل الفرس وإمبراطور البيزنطيين "الروم"، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ما جعل هؤلاء يعملون على إثارة الفتنة في بلاد ليس فيها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد١.

روى الطبري أنه "لما بويع أبو بكر رضي الله عنه، وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة، وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت٢ اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم"٣.

ومن ثم فإن لنا أن نتصور، على الرغم من قلة المادة التاريخية، وانعدامها أحيانًا، حجم الدور اليهودي، والنصراني في حركة الردة والتنبؤ في حياة أبي بكر. ويذكر أن اليهود بخاصة يعملون خفية، ومن وراء حجاب، وقد أخفقت محاولاتهم لضرب الإسلام في عصر الرسالة، وكانت النتيجة التشتت، والتردي بعد أن طردهم النبي من المدينة، وأخضعهم في خيبر، فتربصوا بالإسلام والمسلمين.

وكان لتنوع الحياة في الجزيرة العربية دور في اضطراب العرب، فحياة الحضر والبدو تتجاور مع ما بينها من تباين، مما يجعل الوحدة القومية أمرًا ليس سهلًا، ثم إن طبيعة حياة البدوي لا تخضع لحاكم على النحو الذي يفهمه الحضري. فالبدوي لا يقابض باستقلاله الفردي شيئًا، كما ترى القبيلة في البادية أن حياتها تكمن في استقلالها، فتقاوم كل ما من شأنه الانتقاص، أو الحد منها. وعندما انتشر الدين الإسلامي بين العرب، وهو يدعو إلى التوحيد، خشي هؤلاء من أن تمتد وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تقضي على استقلال أهل البادية٤.

وبرزت العصبية القبلية بعد وفاة النبي بأوضح معانيها عند بعض القبائل، وقد اتخذت موقفًا سياسيًا معاديًا من قريش، بشكل خاص، التي تزعمت بنظرها جماعة المسلمين، ذلك أن هذه القبائل لم ترض من قبل بتفوق قريش، وزعامتها عليها،


١ هيكل، محمد حسين: الصديق أبو بكر ص٩٩، ١٠٠.
٢ اشرأبت: ارتفعت وعلت.
٣ تاريخ الرسل والملوك: ج٣ ص٢٢٥.
٤ هيكل: ص٩٩.

<<  <   >  >>