للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذه نظرة سليمة للأمور، إذ عندما توقف اندفاع الفتوح، واشتراك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة المنورة إلى دمشق ثم إلى بغداد، تراجع العطاء الذي كان مفروضًا لأهل الجزيرة العربية، فنشأ جيل على البطالة لم يستسغ العمل في التجارة والسعي إلى الرزق، فتراجعت بالتالي مقدرة الحجاز الاقتصادية، والواقع أن عمر أدرك هذه الظاهرة، ولم تغب عن تفكيره، وربما توقع حدوثها في المستقبل، لذلك نراه يحث الناس على العمل، والسعي والاستكثار من الرزق، كما كان شديد الحساسية ضد أولئك الذين يظهرون الأعراض عن الدنيا تعبدًا وزهدًا.

يمدنا ابن الطقطقي بمعلومات مفيدة أثناء شرحه لكيفية تدوين الدواوين في الإسلام: "وكان المسلمون هم الجنود، وكان قتالهم لأجل الدين لا لأجل الدنيا، لكنهم كانوا إذا غزوا، وغنموا أخذوا نصيبًا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد إلى المدينة مال من بعض البلدان أحضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق فيهم حسب ما يراه صلى الله عليه وسلم، وجرى الأمر على ذلك مدى خلافة أبي بكر، فلما كانت سنة خمس عشرة للهجرة، وهي خلافة عمر رأى أن الفتوح قد توالت، وأن كنوز الأكاسرة قد ملكت، وأن الأحمال من الذهب والفضة، والجواهر النفيسة والثياب الفاخرة قد تتابعت، فرأى التوسيع على المسلمين، وتفريق تلك الأموال فيهم، ولم يكن يعرف كيف

يصنع، وكيف يضبط ذلك، وكان بالمدينة بعض مرارزبة الفرس، فلما رأى حيرة عمر قال له: يا أمير المؤمنين إن للأكاسرة شيئًا يسمونه ديوانًا، جميع دخلهم وخرجهم مضبوط فيه لا يشذ منه شيء، وأهل العطاء مرتبون فيه مراتب لا يتطرق عليها خلل، فتنبه عمر، وقال: صفه لي، فوصفه المرزبان، ففطن عمر لذلك ودون الدواوين، وفرض العطاء، فجعل لكل واحد من المسلمين نوعًا مكررًا"١، فإذا كانت ضرورة توزيع، وضبط الغنائم الواردة على المدينة السبب في وضع الديوان، فهذا يستتبع تحديد سنة وضعه بالخامسة عشرة للهجرة.

وتصور الروايات أنه وضع دفعة واحدة، لكن الواضح أنه تطور مع تنامي الفتوح، واستقرار المسلمين في الأمصار، وهذا يعني أن بدايته في السنة الخامسة عشرة للهجرة كانت تخص المدينة وحدها دون المسلمين في البلاد المفتوحة، لكن فتوح القادسية، والمدائن بدلت الأوضاع التي انعكست على بناء الديوان ووظيفته٢، إذ إن إعادة


١ ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا: الفخري في الآداب السلطانية، والدول الإسلامية ص٦٨، ٦٩.
٢ إبراهيم: ص٢٠٨، ٢٠٩.

<<  <   >  >>