للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- سخاؤه:

روى ابن سعد بسند حسن عن أبي جعفر القارئ: خرجت مع ابن عمر من مكة، وكان له جفنة من ثريد يجتمع عليها بنوه وأصحابه، وكل من جاء حتى يأكل بعضهم قائمًا، ومعه بعير له، عليه مزادتان، فيهما نبيذ وماء، فكان لكل رجل قدح من سويق بذلك النبيذ١.

وروى عبد الله بن وهب عن عبيد الله، عن نافع قال: ما أعجبَ ابنَ عمر شيءٌ من ماله إلا قدَّمه، بينا هو يسير على ناقته؛ إذ أعجبته فقال: إخ إخ، فأناخها وقال: يا نافع، حط عنها الرحل، فجللها وقلدها وجعلها في بدنه٢.

وروى عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه: أن ابن عمر كاتب غلامًا له بأربعين ألفًا، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حُمُر له حتى أدى خمسة عشر ألفًا، فجاءه إنسان فقال: أمجنون أنت؟ أنت هاهنا تعذب نفسك، وابن عمر يشتري الرقيق يمينًا وشمالًا، ثم يعتقهم، ارجع إليه فقل: عجزت، فجاء إليه بصحيفة فقال: يا أبا عبد الرحمن، قد عجزت، وهذه صحيفتي، فامحها، فقال: لا،


= آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري، فقال: "لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبو بكر -رضي الله عنه- لم يكن يشد إزاره مسدولًا على كعبيه أولا؛ بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لاجناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصَّل سراويل مغطيًا لكعابه، ومنه طول الأكمام زائدًا، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس. وقد يعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خلع على رئيس خلعة سيراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يُهنِّيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مكس، أو ولاية شرطة. فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب وفي الآخرة أشد عذابًا وتنكيلًا. فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثل ابن عمر في دينه، وورعه وعلمه وتألهه وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاء من مثل عثمان، فيرده، ونيابة الشام لعلي فيهرب منها. فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. "سير أعلام النبلاء ٣/ ٢٣٣، ٢٣٤"، "وقوله: الفرجية: ثوب واسع طويل الأكمام، يتخذ من قطن أو حرير أو صوف. والسيراء: بكسر السين وفتح الياء والمد، نوع من البرود تتخذ من حرير. والمكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار".
١ الطبقات "٤/ ١٤٨"، سير أعلام النبلاء "٣/ ٢٣٩"، والنبيذ: ما يعمل من الأشربة من التمر والذبيب.
٢ سير أعلام النبلاء "٣/ ٢١٧".

<<  <   >  >>