للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن دقته أيضًا اعتناؤه بالأسانيد وتحويلها، وعدم الاكتفاء ببعضها، مع إيجاز العبارة وكمال حُسنها، ولا يجيز لنفسه أن يروي الصحيفة الواحدة بإسناد واحد، وإنما ينبه على الإسناد في كل حديث، ويتجلى ذلك في صحيفة همام بن منبه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد رويت هذه الصحيفة بإسناد واحد في أولها، وكان مسلم يستطيع أن يفعل ذلك بألا يذكر الإسناد إلا مع الحديث الأول فيها، كما أجاز ذلك وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيلي الشافعي؛ ولكنه "ورعًا واحتياطًا وتحريًا وإتقانًا" ذكر كل حديث منهما مقترنًا بإسناده١.

ومن دقته تحريه في مثل قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن يحيى، وهو ابن سعيد"، فلم يستجز -رضي الله عنه- أن يقول: سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد؛ لكونه لم يقع في روايته منسوبًا، فلو ذكره بنسبه إلى أبيه لكان مخبرًا عن شيخه أنه أخبره بنسبه، والحقيقة أنه لم يخبره.

فهو بهذا كله قد حافظ على التقاليد الأصيلة لعلم الإسناد وروايته، تلك التقاليد التي وضعها أئمة الحديث؛ صيانة للرواية من التبديل والتغيير، وتوثيقًا لها؛ بحيث يطمأن إلى ورود الحديث ورودًا نقيًّا دون تحريف فيه، وأصبح كتاب مسلم -كما قال أحد الدارسين المحققين المعاصرين- بهذا كله "كامل الأسانيد، واضح البناء، منطقيًّا في ترتيب مواده، موفقًا في اختيار مصادره٢" ٣.

هذا، وقد أعلن الإمام مسلم عن منهجه وشرطه في مقدمه صحيحه فقال:

"ثم إنَّا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو أنا نَعْمِدُ إلى جُمْلَةِ ما أُسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-


١ مقدمة شرح صحيح مسلم "١/ ١٣١".
٢ فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي "١/ ٣٥٣".
٣ كتب السنة، الجزء الأول "ص١٩٦ - ١٩٩".

<<  <   >  >>