للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بشيء نوقض في فتواه ورد عليهم، فلم ينقطع الكلام إلا بمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة. وأيضًا جوز القضاة، فإن القضاة لما جار أكثرهم، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل. وأيضًا جهل رءوس الناس، واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث، ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرًا في أكثر المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهًا. ومنها: أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال، ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ: قديمه وحديثه.

ومنهم من تفحص من نوادر الأخبار وغرائبها، وإن دخلت في حد الموضوع. ومنهم من أكثر القال والقيل في أصول الفقه، واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية، فأورد فاستقصى، وأجاب وتفصى، وعرف، وقسم، فحرر، طول الكلام تارة، وتارة اختصر.

ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصورة المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل، وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم، مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل. وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق، قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك، وانتصر كل رجل لصاحبه: فكما أعقبت تلك ملكًا عضوضًا، ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلًا واختلاطًا وشكوكًا ووهمًا ما لها من إرجاء. فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف، لا يميزون الحق من الباطل، ولا الجدل من الاستنباط.

فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقول الفقهاء، قويها وضعيفها، من غير تمييز، وسردها بشقشقة شدقيه. والمحدث من عد الأحاديث، صحيحها وسقيمها، وهذها كهذ الأسمار بقولة لحييه. ولا أقول ذلك كليًّا مطردًا، فإن لله طائفة من عباده، لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه، وإن قلوا١.

"ولم يأت قرن بعد ذلك إلا هو أكثر فتنة، وأوفر تلقيدًا، وأشد انتزاعًا للأمانة


١ يشير إلى الحديث عند أحمد والشيخين عن معاوية مرفوعًا: "لا تزل طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".

<<  <   >  >>