للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من صدور الرجال، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأن يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} ١ وإلى الله المشتكى، وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان" انتهى كلام ولي الله الدهلوي، وقد سبقه إلى كشف هذه الأسرار الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية حيث قال في الباب الثامن عشر وثلاثمائة في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية، بالأغراض النفسية -عافانا الله وإياكم من ذلك ما نصه بعد أبيات صدر بها هذا الباب:

"اعلم -وقفنا الله وإياك- أيها الولي الحميم، والصفي الكريم، أنا روينا في هذا الباب عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا أصاب من عرضه، فجاء إليه يستحله من ذلك، فقال له: يابن عباس! إنني قد نلت منك، فاجعلني في حل من ذلك. فقال: أعوذ بالله أن أحل ما حرم الله! إن الله قد حرم أعراض المسلمين، فلا أحله، ولكن غفر الله لك. فانظر: ما أعجب هذا التصريف، وما أحسن العلم. ومن هذا الباب خلف الإنسان على ما أبيح له فعله أن لا يفعله، أو يفعله، ففرض الله تحلة الإيمان، وهو من باب الاستدراج والمكر الإلهي، إلا لمن عصمة الله بالتنبيه عليه، فما ثم شارع إلا الله تعالى، قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} ٢ ولم يقل له: "بما رأيت".

بل عاتبه سبحانه وتعالى، لما حرم على نفسه باليمين، في قضية عائشة وحفصة٣، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ؟ ٤ فكان هذا ما أرته نفسه. فهذا يدلك أن قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّه} أنه ما يوحى به إليه، لا ما يره في رأيه. فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى من رأي كل ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رأته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم؟ ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو في طلب


١ سورة الزخرف الآية: ٢٢.
٢ سورة النساء الآية ١٠٤.
٣ أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي في التفسير والأيمان والنذور والأشربة وغيرها.
٤ سورة التحريم الآية: ١.

<<  <   >  >>