قائله معروفا بالحق أو الباطل، فإن الذهب يستخرج من التراب والنرجس من البصل، والترياق من الحيات ويجتني الورد من الشوك فالعاقل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال والكلمة من الحكمة ضالة العاقل يأخذها من عند كل من وجدها عنده سواء كان حقيرًا أو جليلًا وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي بأمور منها أنه لا يعاف العسل إذا وجده في محجمة الحجام، ويعرف أن الدم قذر لا لكونه في المحجمة، ولكنه قذر في ذاته فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرف الدم المستقذر لا يكسبه تلك الصفة ولا يوجب نفرة عنه، وهذا وهم باطل غلب على أكثر الناس فمهما نسب كلام إلى قائل حسن اعتقادهم فيه قبلوه، وإن كان القول باطلا وإن نسب القول إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه، وإن كان حقا ودائما يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهذا غاية الجهل والخسران فالمحتاج إلى الترياق إذا هربت نفسه منه حيث علم أنه مستخرج من حية جاهل فيلزم تنبيهه على أن نفرته جهل محض وهو سبب حرمانه من الفائدة التي هي مطلوبة فإن العالم هو الذي يسهل عليه إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال لا بأن يكون ملتبسًا عليه الحق بالباطل والكذب بالصدق والجميل بالقبيح ويصير يتبع غيره ويقلده فيما يعتقد، وفيما يقول فإن هذه ما هي إلا صفات الجهال والمتبعون من الناس على قسمين قسم عالم مسعد لنفسه ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر بعقله ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصح أن يقود العميان وإذا كان تقليد الرجال مذموما غير مرضي في الاعتقادات فتقليد الكتب أولى وأخرى بالذم، وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار واحد منها واتباعه بلا دليل باطل لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضًا بمثله، وكل إنسان من حيث هو إنسان فهو مستعد لإدراك الحقائق