اللغة من أعرق مظاهر الحضارة الإنسانية، بل هي أصل الحضارة وصانعة الرقي والتقدم، فهي التي تؤلف الحد الفاصل بين شعب وشعب وبين أمة وأمة، بل بين حضارة وحضارة؛ لأن الأفراد الذين يتكلمون لغة واحدة، لا يتفاهمون بيسر وسهولة فحسب، وإنما هم قادرون على أن يؤلفوا مجتمعا إنسانيا موحدا متجانسا؛ لأن اللغة هي قوام الحياة الروحية والفكرية والمادية، بها يعمق الإنسان صلته وأصالته في المجتمع الذي يولد فيه، حيث تخلق اللغة من أفراده أمه متماسكة الأصول موحدة الفروع.
وقد حاول علماء اللغة وغيرهم من العلماء والفلاسفة والمفكرين -على مر العصور- أن يسبروا غور هذه الظاهرة الفريدة العريقة في حياة البشر للكشف عن حقيقتها وكنهها. وكان أستاذنا المرحوم الدكتور محمود السعران واحدا من هؤلاء العلماء الذي أوقفوا حياتهم على دراسة اللغة ونشر المعرفة العلمية الموضوعية المنظمة حولها.
ولم يدر بخلدي وأنا أخطو خطواتي الأولى نحو الدراسات العليا "١٩٦٢" وأقرأ عليه -على طريقة السلف- كتابه "علم اللغة، مقدمة للقارئ العربي" أن الزمن سيدور دورته ويلقي على عاتقي مهمة تقديم الطبعة الثانية من هذا السفر الجليل بعد وفاة صاحبه بثلاثين عاما، وهو مطلب عزيز أشفقت على نفسي منه ولكني لم أستطع له ردًّا؛ اعترافا بفضله عليَّ وإحياء لذكرى رائد من رواد علم اللغة في مصر والعالم العربي.
وعلى الرغم من مضي هذه السنوات الطوال على ظهور الطبعة الأولى من الكتاب، طرأ خلالها تطور هائل في حقل الدراسات اللغوية، إلا أنني ما زلت