النظر في اللغة وطرق درسها جد قديم، وللعرب في ذلك آثار كبيرة معروفة علينا أن نتدبرها ونقومها لإبراز دورهم في تاريخ الدراسات اللغوية، وللائتناس بما يصلح من الأصول اللغوية التي أسسوها أصولا لعلم اللغة الحديث.
ولكن الدراسات اللغوية في أوروبا وأمريكا نشطت ونشطت الثقافة الغربية بعامة، فأصبحت -منذ حوالي نصف قرن- "علمًا" مستقلًّا، متفردًا متخصص الوسائل. ولقد نقلنا عن الغرب كثيرا من العلوم التي سبقنا إليها، وجاوزنا في كثير منها طور الأخذ إلى طور التأليف الأصيل، ودراساتنا الأدبية والنقدية خير حظا من الدراسات اللغوية فقد تعرفنا على كثير مما أحدثه الغربيون فيها، وانتفعنا به، وصدرت عن باحثينا دراسات أصيلة على هدى النظر الأدبي الحديث.
ولكن تعريفنا بالنشاط اللغوي العلمي في أحدث صوره لا يزال تعريفا هينا غامض القسمات، ينتظر الجهود الجادة المتلاحقة من الأفراد والهيئات.
وهذا الكتاب في "علم اللغة" محاولة أقدمها في هذا السبيل، وهو كتاب يحدد أسلوب عرضه للموضوعات، ومنهج تناوله للمسائل، أنه "مقدمة للقارئ العربي".
وقد آثرت أن أبدأ تعريف هذا العلم -بعد أن قدمت له منذ سنوات بكتابي "اللغة والمجتمع: رأي ومنهج"- بكتاب مؤلف لا مترجم، فالكتاب الإنجليزي أو الفرنسي موجه إلى قارئ ذي ثقافة لغوية خاصة، وتكوين عقلي مخالف، فهو مثلا يغضي النظر عما نحن في حاجة إلى إيضاحه، ويفصل فيما نراه في مرحلتنا هذه تزيدا.
والقارئ الأوروبي يجد في لغته عشرات وعشرات من المؤلفات والمصنفات مها المطول ومنها المختصر، ومنها ما وضع لعامة المثقفين، وما وضع لخاصتهم، فهو من هذا العلم في حال خير مرات ومرات من حال القارئ العربي منه.
ثم إن القارئ العربي تعلق بذهنه تصورات ومذاهب لغوية لا تيسر له متابعة التصورات والمذاهب الحديثة في علم اللغة إن عرضت له موجزة مركزة، أو مشارا إليها إشارة عابرة، كما يحدث في المؤلف الأوروبي أو الأمريكي.
ولذلك مهدت لكتابي هذا بمقدمة طويلة شيئا ما تهيئه لذهن القارئ الشادي لتلقي أصول هذا العلم بأيسر سبيل، وأدنى مجهود.