للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأمهلهم مدة ليراجعوا أنفسهم، فتمكنوا من الفرار، وساروا في الجبال بعيدًا عن هذه المدينة، وما فيها من كفر وضلال، إلى أن وجدوا هذا الكهف فدخلوا فيه، وكان من أمرهم ما كان، ألا ترون هذا الموقف الشجاع لهؤلاء الفتية، لم يكتموا إيمانهم ولم يجاملوا الملك فيما هو فيه من عبادة غير الله، إنما أعلنوها صيحة مدوية أمام الملك، وحوله حاشيته وجنده وأتباعه، من الذي يطيق ذلك إلا الأفذاذ من الرجال، الذين استولى الإيمان بالله الواحد الأحد على أفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم، فلم يبالوا مَلكًا ولا مُلكًا ولا سلطانًا ولاة قوة من قوى الأرض، مهما عتت وبغت.

وفي قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: ١٤) إحساس عظيم بربوبية الله لهم وعظيم عطائه إليهم، وهيمنته وتصريفه وحده لأمورهم، وأن ربهم الذي عرفوه فعبدوه هو رب السموات والأرض، فجميع ما فيها ومن فيها، بل السموات نفسها والأرض نفسها ملك له وحده، ملكًا وتصريفًا وتدبيرًا، وما دامت هذه ربوبيته لنا وللسموات والأرض، فلن ندعوا من دونه إلهًا، فوصلوا بهذا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية، والتي هي محل النزاع بين الرسل وأممهم عبر مراحل التاريخ، فكثير من الأمم يعترفون بالله ربًّا خالقًا رازقًا، ولكنهم لا يفيئون له بالعبودية والطاعة والمحبة، فيشركون معه أو يعبدون من دونه آلهة أخرى لا تضر ولا تنفع.

وهذا الذي كانت عليه أمم الأرض في الفصل بين الربوبية والألوهية، مخالف للعقل والواقع، ومن يفعله فقد اشتط في الحكم، وبنى القضية على غير أساس، ولهذا قال هؤلاء الفتية: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: ١٤) ثم قالوا للملك: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الكهف: ١٥) فبينوا للملك

<<  <   >  >>