لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجُوه فيعصِّبوه بالعصابة -أي: ليتوجوه ملكًا عليهم، أو رئيسًا عليهم- فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله؛ شرك بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم)) كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله -عز وجل-: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}(آل عمران: ١٨٦) الآية، وقال الله:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}(البقرة: ١٠٩) إلى آخر الآية.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأوَّل العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدرًا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجَّه، فبايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام فأسلموا، ولكن إسلام هؤلاء كان إسلامًا في الظاهر، أما الباطن فهو ما زال مظلمًا بظلام الكفر، فهؤلاء أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وما زالوا يكيدون للإسلام بكل ألوان الكيد، ولكن الله -سبحانه وتعالى- كان يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن يعفو عن هؤلاء المنافقين، وأن يصفح عنهم ما وقعوا فيه من نفاق.
أيضًا يروي الإمام البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن هذه الآية التي في القرآن:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال في التوراة: "يا أيها النبي إن أرسلناك شاهدًا ومبشرًا وحرزًا للأمين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينًا عميًا، وأذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا"، فالعفو والصفح إذًا -كما نرى- في هذا الحديث صفة أو صفتان ملازمتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر الله بهما في التوراة.