للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أكثروا في ذكر الكرم. وما الكرم إلا كبعض الخصال المحمودة التي لم يعدمها بعض الذم، وليس شيء يخلو من بعض النقص والوهن. وقد زعم الأولون أن الكرم بسبب الغنى «١» ، وأن الغنى يسبب البله «٢» ، وأنه ليس وراء الأبله إلا المعتوه. وقد حكوا عن كسرى أنه قال: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع» ، وسواء جاع فظلم وأحفظ وعسف، أم جاع فكذب وضرع وأسفّ «٣» ، وسواء جاع فظلم غيره، أم جاع فظلم نفسه، والظلم لؤم. وإن كان الظلم ليس بلؤم فالإنصاف ليس بكرم. وإن كان الجود، على من لا يستحق الجود كرما، فالجود لمن وجب له ذلك ليس بكرم. فالجود إذا كان لله فكان شكرا له، والشكر كرم. فكيف يكون الجود، إذا كان معصية كرما، وكيف يتكرّم من يتوصّل بأياديك الى معصيتك، وبنعمك الى سخطك؟ فليس الكرم إلا الطاعة، وليس اللؤم إلا المعصية، وليس بجود ما جاوز الحق، وليس بكرم ما خالف الشكر. ولئن كان مجاوز الحق كريما، ليكونن المقصّر دونه كريما.

فإن قضيتم بقول العامة، فالعامة ليست بقدوة. وكيف يكون قدوة من لا ينظر ولا يحصّل ولا يفكر ولا يمثّل «٤» ؟ وإن قضيتم بأقاويل الشعراء، وما كان عليه أهل الجاهلية الجهلاء، فما قبّحوه مما لا يشك في حسنه أكثر من أن نقف عليه، أو نتشاغل باستقصائه. على أنه ليس بجود إلا ما أوجب الشكر، كما أنه ليس ببخل إلا ما أوجب اللوم. ولن تكون العطية نعمة على المعطى حتى يراد بها نفس ذلك المعطى «٥» . ولن يجب عليه الشكر إلا مع شريطة القصد. وكل من كان جوده يرجع إليه، ولولا رجوعه إليه لما جاد عليك، ولو تهيأ له ذلك

<<  <   >  >>