وفي أواخر حياته، سعى إليه المتوكّل طالبا إيّاه، فأجابه الجاحظ:«وما يصنع أمير المؤمنين بامرىء ليس بطائل، ذي شقّ مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟» . وقال المّبرد:«دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له:
كيف أنت؟ قال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير لا يشعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه» .
ولم يهجره الألم؛ بل تفاقم. وظل يرافقه مرافقة الكتب له. وما كاد يطوي صفحة من صفحاتها، حتى طوت سطور أيّامه الأخيرة بسقوطها عليه، مشكّلة قبره الذي أحب مغمورا بالورق والأحرف والكلمات.
وهكذا كانت ميتة شهيد الكتاب سنة ٢٥٥ هـ.
للجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتابا بين رسالة صغيرة ومؤلف، إلا أن معظم هذه الآثار لم يسلم. وإن عوامل كثيرة كانت سببا في ضياع مؤلفات عديدة لعباقرة عرب كالجاحظ. وبقي لنا بقية مما ألّفه أبو عثمان وأودعه خزائن التراث العربي، نذكر منها: كتاب البيان والتبيين، وكتاب الحيوان، وكتاب البخلاء الذي نخصّصه هنا بالتفصيل. وإنك إذا قرأته قراءة عميقة وجدت، ما يرمي إليه صاحبه من أبعاد تتناول حياة العصر العباسي، وشؤون الناس، وما أحاط بها من تغيّرات طارئة، وعادات دخيلة، وتقاليد غريبة، وأفكار جديدة على الأصعدة الإجتماعية والإقتصادية والفكرية.
إذن ما هو هذا الكتاب، وما غايته، وماذا يتضمن؟
هو كتاب يصوّر أحوال فئة من الناس اتخذت لنفسها منهجا معيّنا في التفكير والتصرّف والسلوك. وباتت مقتنعة به اقتناعا كاملا، تبدّدت في ظله كل الأشياء الأخرى. فإذا البخل هو واقعهم ومفهومهم وحياتهم التي يسيرون عليها، محاولين إسدال ستار من العلم عليه، علّهم في ذلك يقنعون الناس إيهاما بأنهم أصحاب فكر ومنطق، ورجال تدبير، وذو واقتصاد وتوفير.
كان الجاحظ في كتاب البخلاء عالما شأنه في جميع مؤلفّاته. كان عالما طبيعيا