في كتاب «الحيوان» ، وعالما نقديا في «البيان والتبيين» ، وها هو عالم إجتماعي وناقد في كتاب البخلاء، يدرس أحوال الناس من خلال سلوكهم ومعاشهم، يحلّل أوضاع طبقة من المجتمع العباسي تأثّرت بعوامل طارئة جديدة.
إستهل كتابه بردّ على صديق طلب إليه أن يحدّثه عن البخل ونوادره. وقد صدّره بمقدمة طويلة، حاول فيها أن يثير اهتمام القراء، وأن يشعرهم بشيء من الرغبة والتشويق. ومن المقدمة انتقل إلى إثبات رسالة سهل بن هارون التي بعث بها إلى بعض أقربائه، الذين اتّهموه بالبخل. وعمد الجاحظ أيضا إلى ذكر نوادر البخلاء وسرد قصصهم، بادئا بأهل مرو، وأهل خراسان، متوقفا عند أهل البصرة من المسجديين ممن يسميهم «أصحاب الجمع والمنع» ، منتقلا الى الأشحّاء من أصحابه ومعاصريه كزبيدة بن حميد، وأحمد بن خلف اليزيدي، وخالد بن يزيد، وأبي محمد الخزامي، والحارثي، والكندي، وابن أبي بردة، واسماعيل بن غزوان، وموسى بن عمران، والأصمعي، والمدائني وطرائف شتّى، استطاع من خلالها أن يعطينا عيّنات صادقة عن كل حيلة، وكل نادرة بأسلوب قصصي طريف، وبراعه فنيّة رائعة. وبعد ذكر نوادره يجد الجاحظ أن البخل عندهم اقتصاد فني، ولهم في ذلك آراء قلما تخطر ببال إنسان.
وللبخلاء عند الجاحظ أقوال كثيرة في وضع كل شيء موضعه، في إظهار منافع المأكولات وأضرارها، فنوى الثمر يعقد الشحم في البطن، وقشور الباقلاء تحتوي الغذاء «إن الباقلاء يقول: من أكلني بقشوري فقد أكلني، ومن أكلني بغير قشوري فأنا الذي آكله» .
وأما غاية الكتاب هذا، فإننا نجد أن فريقا من الدراسين ذهب الى أن الجاحظ أراد منه الترويح عن النفس، وإضحاك القارىء. ولكن مهما يكن من أمر، فإن أبا عثمان لم يكن يقنع نفسه بأن مؤلّفه هذا قد وضع من أجل الهزل والتسلية، إنما له فيه أيضا غاية جليلة؛ وهي تصوير طبقة محددة ظهرت في المجتمع العباسي، أرادت أن تسلك طريقا جديدة من العادات والأخلاق التي لم يألفها العربي سابقا. وإن مؤثرات دخيلة أحدثت فجوات واسعة في