للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ فَلَا يَنْبَغِي رَدُّهَا، وَإِنَّمَا يُتَمَحَّلُ لَهَا، وَالْوَجْهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ اعْتَمَرَ، وَتَحَلَّلَ مِنْ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَسَاقَ الْهَدْيَ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْفَسْخِ، لِيَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، وَمَنَعَهُ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إلَى عُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ عُمْرَتُهُ الْأُولَى وَسَوْقُهُ الْهَدْيَ، فَعَلَى هَذَا تَتَّفِقُ الْأَحَادِيثُ، وَلَا يُرَدُّ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ قَالُوا: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِنَّمَا عَلَّلَ بِسَوْقِ الْهَدْيِ لَا بِفِعْلِ عُمْرَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؟ قُلْنَا: ذَكَرَ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ لِمُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَمَنْ لَمْ يَسُقْهُ، ثُمَّ إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ، كُلَّهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ، إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، فَفِعْلُهُ هَذَا يَكْفِي فِي الْبَيَانِ لِأَصْحَابِهِ، وَالْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْعُمْرَةَ تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ الْمُحْتَرَمِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ لِأَجْلِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَمِدُونَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَالَ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ: فَقَالَ أَحْمَدُ: هُوَ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَلَا أَقُولُ بِهِ، وَالْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ لَا يُعْرَفُ، وَلَوْ عُرِفَ فَأَيْنَ يَقَعُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ، يَرَوْنَ الْفَسْخَ، وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ لَهُمْ خَاصَّةً، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يُفْتِي بِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَشَطْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: فَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ إنَّهُ ظَنٌّ مِنْ أَبِي ذَرٍّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ سُرَاقَةَ قَالَ: أَلِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: "بَلْ لِلْأَبَدِ"، يُرِيدُ أَنَّ حُكْمَ الْفَسْخِ بَاقٍ عَلَى الْأَبَدِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ كَانَ خَاصًّا بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ" رحمه الله: وَمَا جَمَعَ بِهِ الْمُؤَلِّفُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَدْ اعْتَمَرَ وَتَحَلَّلَ مِنْ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَسَاقَ الْهَدْيَ، فَضَعِيفٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَفْرَدَ، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْهُ اعْتَمَرَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ بَعْدَ الْحَجِّ إلَّا عَائِشَةُ رضي الله عنها، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، وَسَاقَ الْهَدْيَ، ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ لِأَجْلِ الْهَدْيِ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ قَارِنًا وَطَافَ طَوَافَيْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>