باليسير أَوْ بالكسب جاز لَهُ أن يخرج مِنْهُ وإلا فلا وجه لذلك وأما ثعلبة فما ضره المال إنما ضره البخل بالواجب.
وأما الأنبياء فقد كان لإبراهيم عَلَيْهِ الصلاة والسلام زرع ومال ولشعيب ولغيره وكان سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه ويصل به رحمه فان مات تركه ميراثا لمن بعده وخلف ابْن المسيب أربعمائة دِينَار وَقَدْ ذكرنا مَا خلفت الصحابة وَقَدْ خلف سفيان الثوري رَضِيَ اللَّهُ عنه مائتين وكان يَقُول المال فِي هَذَا الزمان سلاح وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء وإنما تجافاه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات وجمع الهمم فقنعوا باليسير ولو قَالَ هَذَا القائل أن التقلل مِنْهُ أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الاثم.
فصل: واعلم أن الفقر مرض فمن ابتلى به وصبر أثيب عَلَى صبره ولهذا يدخل الفقراء الْجَنَّة قبل الاغنياء بخمسمائة عام لمكان صبرهم عَلَى البلاء والمال نعمة والنعمة تحتاج إِلَى شكر والغني وإن تعب وخاطر كالمفتي والمجاهد والفقير كالمعتزل فِي زاوية وَقَدْ ذكر أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي فِي كتاب سنن الصوفية باب كراهية أن يخلف الفقير شيئا فذكر حديث الذي مات من أهل الصفة وخلف دينارين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيتان".
قال المصنف: وهذا احتجاج من لا يفهم الحال فان ذلك الفقير كان يزاحم الفقراء فِي أخذ الصدقة وحبس مَا معه فلذلك قَالَ كيتان ولو كان المكروه نفس ترك المال لما قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" ولما كان أحد من الصحابة يخلف شيئا وَقَدْ قَالَ عُمَر بْن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عنه حث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصدقة فجئت بنصف مالي فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وما أبقيت لأهلك" فقلت مثله فلم ينكر عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى بطلان مَا يقوله جهلة المتصوفة أن ليس للإنسان ادخار شيء فِي يومه لغده وإن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عَلَيْهِ حق توكله قَالَ ابْن جرير وكذلك قوله عَلَيْهِ الصلاة السلام: "اتخذوا الغنم فإنها بركة" فيه دلالة عَلَى فساد قول من زعم من المتصوفة أنه لا يصح لعبد التوكل عَلَى ربه إلا بأن يصبح ولا شيء عنده من عين ولا عرض ويمسي كذلك ألا ترى كيف ادخر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأزواجه قوت سنة؟.