الشبهة الثالثة: قالوا قد ثبت سعة رحمة اللَّه سبحانه وتعالى وهي لا تعجز عنا فلا وجه لحرمان نفوسنا مرادها.
فالجواب كالجواب الأَوَّل لأن هَذَا القول يتضمن إطراح مَا جاء به الرسل من الوعيد وتهوين مَا شددت فِي التحذير مِنْهُ فِي ذلك وبالغت فِي ذكر عقابه ومما يكشف التلبيس فِي هَذَا أن اللَّه عز وجل كَمَا وصف نفسه بالرحمة وصفها بشديد العقاب ونحن نرى الأولياء والأنبياء يبتلون بالأمراض والجوع ويأخذون بالزلل وَكَيْفَ وَقَدْ خافه من قطع لَهُ بالنجاة فالخليل يَقُول يوم القيامة نفسي نفسي والكليم يَقُول نفسي نفسي وهذا عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عنه يَقُول الويل لعمر إن لم يغفر لَهُ واعلم أن من رجا الرحمة تعرض لأسبابها فمن أسبابها التوبة من الزلل كَمَا أن من رجا أن يحصد زرع وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} يعني أن الرجاء بهؤلاء يليق وأما المصرون عَلَى الذنوب وَهُوَ يرجون الرحمة فرجاؤهم بعيد وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى عَلَى اللَّه الأماني وَقَدْ قَالَ معروف الكرخي رجاؤك لرحمة لمن لا تطيعه خذلان وحمق واعلم أنه ليس فِي الأفعال التي تصدر من الحق سبحانه وتعالى مَا يوجب أن يؤمن عقابه إنما فِي أفعاله مَا يمنع اليأس من رحمته وكما لا يحسن اليأس لما يظهر من لطفه فِي خلقه لا يحسن الطمع لما يبدو من أخذانه وانتقامه فَإِن من قطع أشرف عضو بربع دِينَار لا يؤمن أن يكون عقابه غدا هكذا.
الشبهة الرابعة: أن قوما منهم وقع لهم أن المراد رياضة النفوس لتخلص من أكدارها المردية فلما راضوها مدة ورأوا تعذر الصفاء قالوا مَا لنا نتعب أنفسنا فِي أمر لا يحصل لبشر فتركوا العمل وكشف هَذَا التلبيس أنهم ظنوا أن المراد قمع مَا فِي البواطن من الصفات البشرية مثل قمع الشهوة والغضب وغير ذلك وليس هَذَا مراد الشرع ولا يتصور إزالة مَا فِي الطبع بالرياضة وإنما خلقت الشهوات لفائدة إذ لولا شهوة الطعام هلك الإنسان ولولا شهوة النكاح انقطع النسل ولولا الغضب لم يدفع الإنسان عَنْ نفسه مَا يؤذيه وكذلك حب المال مركوز فِي الطباع لأنه يوصل إِلَى الشهوات وإنما المراد من الرياضة كف النفس عما يؤذي من جميع ذلك وردها إِلَى الاعتدال فيه وَقَدْ مدح اللَّه عز وجل من نهي النفس عَنِ الهوى وإنما تنتهي عما تطلبه ولو كان طلبه قد زال عَنْ طبعها مَا احتاج الإنسان إِلَى نهبها وَقَدْ قَالَ اللَّه عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ