وتيتَّمَ محمود البارودي صغيرًا، وهو في السابعة من عمره، فحُرِمَ بذلك حنان الأب ورعايته، وتلقَّى دروسه الأولى في البيت حتى بلغ الثانية عشرة، ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من الجراكسة، والترك، وأبناء الطبقة الحاكمة, وتخرَّج في المدرسة الحربية سنة ١٨٥٤, وهو في السادسة عشرة من عمره, في عهد عباس الأول، وكان من المعوقين للنهضة كما مَرَّ بنا، وقد خمدت في عهده روح الحماسة التي شبها محمد علي في الجيش, بل سَرَّحَ معظمه، وقفرت ميادين القتال من ألوية مصر، ولم يكن عهد سعيد أحسن حالًا من عهد عباس، فلم يجد البارودي -كمالم يجد زملاؤه- عملًا يعملونه, أما هم: فقد طاب لهم عيش الرخاء والدعة, وسَرَّهم البعد عن ميادين القتال، ولكنه أحسَّ دونهم بألم ممضٍّ؛ إذ لم يشترك في حربٍ كما اشترك آباؤه، كم كان يود أن يحقق عن طريق الجندية والجيش آمالًا ضخمةً، وأمانيّ عريضة, ودفعه هذا الأمل إلى العوض عن المعارك الحقيقة بمعارك موصوفةٍ مدونةٍ في صحفات التاريخ, فعكف على كتب الأقدمين يلتهمها التهامًا. وكانت ملكة الشعر كامنة في حنايا فؤاده, فراقه من التراث الأدبي شعر الحماسة والفخر، ووصف ميادين القتال، وأعمال الأبطال، ورأى في هذا الأدب تصويرًا للحياة كلها؛ حلوها ومرها, من غزل وفكاهة وحكمة ورثاء, وكل ما يخطر ببال الناس، فازداد شغفه به وحرصه على حفظه وتدوينه، وتحركت نفسه لقول الشعر فقَلَّدَ فحول الشعراء في أروع قصائدهم، وهل على مثله مِنْ بأسٍ أو عارٍ إذا هو قال الشعر؟ إذا وهم هذا معاصروه من أبناء طبقته لجهلهم وخمود قريحتهم ولتقالديهم الموروثة، ولهوان شعراء زمانهم, وضعة شأنهم, فإن البارودي كان على ذكر من أنَّ أمراء كثيرين قبله، أعرق نسبًا، قد برزوا في الشعر العربيّ وسطروا تاريخهم في سجل الخلود، كامرئ القيس، وابن المعتز، والشريف الرضيّ، وأبي فراس, وأضرابهم, فلِمَ لا يكون مثل هؤلاء؟ ولم لا يرتفع بالشعر إلى منزلتهم؟ لن يكون مدَّاحًا متملقًا، أو نديمًا منافقًا، ولكنه سيقول في أغراض شريفة تليق به وبمكانته.