فسواد الليل ما أن ينقضي ... وبياض الصبح ما أن ينتظر
لا أنيس يسمع الشكوى ولا ... خبر يأتي، ولا طيف يمر
بين حيطان وباب موصد ... كلما حركه السجان صر
يتمشى دونه حتى إذا ... لحقته نبأة مني استقر
كلما درت لأقضي حاجة ... قالت الظلمة: مهلًا، لا تدر
أتقرى الشيء أبغيه فلا ... أجد الشيء ولا نفسي تقر
ظلمة ما إن بها من كوكب ... غير أنفاس ترامى بالشرر
وهذه القطعة فيها أبيات من الشعر الواقعيّ التي تغني بتصويرها الحقيقة العارية عن أي خيالٍ مهما عمق وملح.
٥- وهذا وقد وصف البارودي بعض آثار مصر القديمة، وفتح بذلك الطريق لشوقي وغيره، وهو وإن لم يتعمق في وصفه، ويستعرض التاريخ المجيد كما أفعل شوقي من بعده, إلّا أنه برهنَ على أنه شاعر يرى الجمال والعظة فيما حوله من مناظر، وأن شاعريته حساسة مرهفة؛ لأن مثل هذا الوصف لا تحفزه إليه رغبة في صلة, أو تَقَرُّبٌ من أمير، وإنما هو إشباعٌ لرغبةٍ فنيةٍ تجيش في صدره, وتحاول شاعريته الإفصاح عنها، ولذلك عد باب الوصف من خير أبواب الشعر؛ لأنه فضلًا عن نشره ما طوى من آيات الجمال، أو ما خفي على عيون الناس منها, فإنه يدل على نفسية الشاعر، وقدرته وخياله، وهو خير محكٍّ للتمييز بين الشعراء، ومن ذلك قوله يصف الهرمين:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا ... لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر ... خلت وهما أعجوبة العين والفكر