وكان التعليم المدني الذي وضع محمد علي أسسه في مصر، ونمَّاه إسماعيل, واشتد عوده وآتى أكله بعد ثورتنا القومية في سنة ١٩١٩، من أعظم العوامل التي ساعدت على اتصال الشرق بالغرب؛ وكذلك فعلت النهضة التعليمية في سوريا، وفي لبنان على الأخص، ومجهودات الإرساليات التبشيرية في هذا المضمار لا تنكر, وصار الطالب العربي في مدارس القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، حتى وهو في مرحلة الدراسة الثانوية يلم بشيء كثير من الأدب الغربيّ، ويطَّلِعُ على بعض صوره: من قصة، وشعر، ومقالة، وحياة أدباء، ويستوعب كل هذا, ويؤدي فيه امتحانًا، ثم يخزنه في عقله الواعي، أو في عقله غير الواعي؛ ولن يستطيع أن يتخلص من تأثيره حين يتكلم، وحين يكتب، وحين يقرض الشعر، وحين يفكر وحده، دع جانبًا دراسة التخصص في الجامعات، وما تقوم به الهيئات والأفراد من بحوثٍ وترجماتٍ، ونهضة الصحافة والتجديد في مادتها بنقل كثير من ألوان الصحافة الغربية وأبوابها لجمهرة القراء وعامة الشعب.
وليس الغرب أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة, ولكنه أمم شتًّى، ولها أذواق مختلفة, وآداب متباينة, ولغات عديدة، ولكل شعب أسلوبه في التفكير، وفلسفةٌ خاصةُ في الحياة، ولم يكن اتصال مصر والبلاد العربية قاصرًا على شعب غربيٍّ دون آخر، بل اتصلنا بكل بلاد الغرب إن لم يكن عن طريق البعثات, فعن طريق الترجمة: اتصلنا بفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، وإيطاليا وروسيا، وأسبانيا، والولايات المتحدة، وغيرها، وعرفنا صورًا وألوانًا من آداب كلٍّ, وفلسفة كلٍّ، ولا سيما في الحقبة الأخيرة، بعد ما انتشر الطيران, وازداد العالم اتصالًا بعضه ببعض.
ومن العسير أن نحدد مدى تأثر الأدب العربيّ بكل ثقافةٍ من هذه الثقافات, بيد أننا نستطيع أن نقول على وجه التقريب: إننا تأثرنا بادئ الأمر بالحضارة الفرنسية، فنقلنا عنها كل ما يتصل بأسباب الحياة من طب وهندسة، وعلوم تجاربة، وقانون, وما شاكل هذا؛ وإن مصر تأثرت بالثقافة الإنجليزية، ثم بالثقافة الفرنسية، ثم أخذت ألوانًا من ثقافاتٍ أخرى دون أن يكون لها تأثير كبير، أما لبنان: فبالثقافة الفرنسية، ثم بالثقافة الأمريكية والإنجليزية، ثم سوى ذلك من الثقافات.