فهذا الشعر السياسيّ، وهذه النفس المتوثبة الطموح، وهذه الثورة المتأججة التي انتهت بصاحبها إلى النفي والتشريد, هي من الجديد في معاني البارودي وشعره، وهي جديدة حتى في الأدب العربيّ كله، وإن كان المتنبي قد حاول من قبل ملكًا وثار على الدنيا التي مكنت للعبيد والخصيان والعلوج في الأرض يسوسون شعوبًا ضعيفة, وجعل يقول:
في كل أرض وطئتها فُدُم ... ترعى بعبد كأنها غنم
فإنه اكتفى بالإشارة والتلميح والزفرة الحارة، وبملامة الدهر ومحاربته في مطلبه، ولكن البارودي كان يطلب شيئًا آخر: كان يطلب الحرية لقومه, والعدل والمساواة، كان يطلب العيشة الهنية في ظلال الحرية، ولا عليه إذا طلب بجانب هذا ملكًا عضوضًا ليحقق لقومه آمالهم، وهَبْ البارودي قَلَّدَ المتنبي في بعض معانيه، فهل كان اقتحامه نار الثورة تقليدًا؟ أو ليس شعره هذا وليد الحوادث وصدى لها؟ وهل فترت عزيمته، ووهنت قوته، وذلت نفسه وهو يقاسي ألم النفي والتشريد، ما دام يدب في جسمه شيء من العافية؟ كلا! وإذا شئت برهانًا فاستمع لهذه الكلمات التي كانت يخشى بأسها على البعد حكام مصر؛ كأنها جيش لهام يبدد سعادتهم.