عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، والتي أسست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسمِّيها في كتابه مدرسة الألسن، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب أغراضها، ورأى في أعضاء البعثات -مهما كثر عددهم- لن يقوموا بكل ما تتطلبه النهضة من جهود، فلابد من إيجاد طبقةٍ من العلماء الاكفاء في الآداب العربية، واللغات الأجنبية، ليضطلعوا بمهمة تعريب الكتب، وليكونوا صلةً بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية.
إننا بالبعثة ننقل بعض المصريين إلى أروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوربا إلى مصر، فاقترح الشيخ على محمد علي إنشاء مدرسة الألسن، وكان من مزايا محمد علي أن يُسَرَّ بالاقتراح الجيد، وينفذه فورًا، فعهد إلى الشيخ رفاعة بوضع المشروع وتنفيذه، وبذلك أنشئت مدرسة الألسن، وكان مكانها "سراي الدفتردار" حيث كان فندق "شبرد القديم" وتقع بجوار قصر الألفي بك, الذي أقام به نابليون, ثم محمد علي، واختار لها الشيخ خمسين طالبًا من نوابغ طلاب المكاتب المصرية, وفي هذه المدرسة التي تولى الشيخ نظارتها ظهر نبوغه عالمًا محققًا، ورئيسًا قديرًا، ومعلمًا كفؤًا، ومربيًا ممتازًا.
وكانت المدرسة كليةً تدرس فيها آداب العربية، واللغات الأجنبية, وخاصة الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافية، والشريعة الإسلامية, والشرائع الأجنبية، فكانت أسبه شيء بكلية للآداب والحقوق مجتمعتين, وكان نهج المدرسة علميًّا ومفيدًا، فلم يكن دروسًا تكتب في دفاتر وتهمل، بل يمرن الطلبة على الترجمة في كتب نافعة، فإذا استغلقت عليهم جملةً لجئوا إلى شيخهم يذللها لهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لهم لغتهم، وخاصةً الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة، لما رُزِقَه من موهبةٍ جليلة في التدريس بلغة سهلة، وعبارةٍ فصيحةٍ, وقدرةٍ على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون، فإذا