وأخذ هذا العقل المنظم الجبار يشع النور في كل مكان يحله صاحبه، فدروس منظمة يلقيها في بيته على صفوة مختارة من حوارييه, أمثال: محمد عبده, وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، وكانوا جميعًا طلبةً بالأزهر حينذاك، وكانت هذه الدروس: منطقًا وفلسفةً وتصوفًا وهيئةً، مثل كتاب "الزوراء" في التصوف, و"شرح القطب على الشمسية" في المنطق، و"الهداية" و"الإشارات" و"حكمة العين"، و"حكمة الإشراق" في الفلسفة، و"تذكرة الطوسي" في علم الهيئة القديمة، وهي كتب تمثل علمًا قديمًا دوَّنَها أربابها في العصور الأولى للدولة العربية، ولكن الروح التي درس بها جمال الدين هذه الكتب، والطريقة التي عرض بها هذه المباحث، والتعليقات التي كان يفيض بها عقب كل مقالة أو بحث، والاستطرادات التي تدعو إليها مقتضيات العصر وظروفه, هي التي حبَّبَت هذه الدورس وتلك الكتب لهؤلاء التلاميذ الأذكياء، وجعلت من دروس جمال الدين نبعًا صافيًا يغترف منه الطلبة علمًا وفلسفةً، ووطنيةً واجتماعيةً وحججًا قويةً لرد المارقين عن جادَّة الدين، ووجدوا فيه شخصية لا تترد في إصدار الأحكام العامة على القضايا المعروضة.
وبجانب هذه الدورس المنظمة, كان للسيد مجلس آخر بأحد المقاهي القريبة من حديقة الأزبكية، حيث يلتف حوله أنماط شتَّى من الراغبين في التزود من علمه وفكره، ويجلسون إليه, ويطرحون عليه أسئلة في مختلف الموضوعات، وهو يجيب إجابات العالم المحقق "لا يسأم من الكلام فيما ينير العقل، أو يطهر العقيدة، أو يذهب بالنفس إلى معالي الأمور، أو يستلفت الفكر إلى النظر في الشئون العامة, مما يمس مصلحة البلاد وسكانها، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة, والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستقيظت مشاعر، وتنبهت عقول، وخف حجاب الغفلة في أطرافٍ متعددةٍ من البلاد, خصوصًا في القاهرة١".