للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذه الحلقة أنشئت مدرسة غير مقيدة بمنهج أو كتاب، ولكنها كانت روحًا مشعةً تبدد دياجير الغفلة، وتحيي العزائم الميتة، وتلهب الإرادات الخامدة، وتفتح الأذهان المغلقة، وفيها تخرج محمود سامي البارودي، وعبد السلام مويلحي, وأخوه إبراهيم المويلحي، ومحمد عبده، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحق، وغيرهم, وفي هذه المدرسة العامة استعرضت حال الأمة الاجتماعية والسياسية، وحقوقها وواجباتها، وأدواؤها ودواؤها، وانتقدت الحكام، وبثت التعاليم، وفشت روح التذمر من الأجانب وتدخلهم في شئون البلاد, مما كان له أبلغ الأثر فيما بعد.

كان جمال الدين يقضي بياض نهاره في بيته يختلف إليه أخصاء تلاميذه، وما أن يقبل الليل حتى يخرج متوكئًا على عصاه إلى هذا المقهى، فيجد في انتظاره الطبيب والمهندس والأديب والشاعر والمعلم والكيماوي وغيرهم، ويظل يحدثهم بشغف وقوة حتى يمضي جزء من الليل.

ولم يكتف جمال الدين بهذه المدرسة العامة, ولا بالدورس الخاصة، بل حاول أن يسيطر على الحياة السياسية، فانضم إلى جماعة "الماسون" وبها الطبقة الممتازة من أبناء الأمة؛ لعله يسيتطيع أن يريهم النور، ويبصرهم حقيقة ما هم فيه، وما عليه بلادهم, وكيف يتسطيعون نفعها بمالهم وجاههم؛ ولكن وجد المحفل الماسوني يأبى أن يقتحم ميدان السياسية، ويتعرض للمسائل العامة، والقضايا الهامة، فثارت ثائرته, وأخذ ينقد اعضاءه نقدًا لاذعًا، ويتهكم بهذه الكلمات الجوفاء التي اتخذوها لهم شعارًا مثل: "الحرية والمساواة ومنفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق" فكيف تتحقق معاني هذه الكلمات إذا لم يشغل المحفل "الماسوني" بالسياسة، ولما أخفق في بعث هذه النار في نفوسهم الميتة استقال، وكوَّن محفلًا آخر للشرق الفرنسيّ، وأخذ الأعضاء يزيدون حتى بلغ عدد ثلاثمائة عضو من نخبة الفكرين، ونظمهم شعبًا مختلفة: فشعبة للعدل، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجيش، وهكذا، حتى تدرس أحوال البلاد جميعها, وتعرف وجوه النقص، وما يتطلبه الإصلاح من أعمال.

<<  <  ج: ص:  >  >>