والحق أن موقف البارودي من السيد جمال الدين لا يمكن الدفاع عنه، وإذا كانت مصر قد حرمت شخص جمال الدين, فقد ظلَّت تعاليمه وروحه الثورية مشتعلة، قد انتقل منها قبس إلى كل من اتصل به، يتطلعون إلى نظامٍ جديدٍ في الحكم, حتى قامت الثورة العرابية، وكثير من أقطابها مدينون بأفكارهم وحماستهم للسيد جمال الدين.
أقام السيد جمال الدين بحيدر أباد بعد أن خرج من مصر، وهناك ألَّفَ كتابه في الرد على الدهريين، وفيه يثبت أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران، ويبطل فيه مذهب "داروين" في النشوء والارتقاء؛ لأن هذا المذهب قد أثار موجةً من الإلحاد والزندقة كادت تودي بالحياة الروحية بالشرق, وهي كل ما بقي له من تراث السلف، بعد أن نال منه الدهر غايته، وبَيَّنَ في هذه الرسالة كذلك, أن الدين أكسب عقول البشر ثلاث عقائد, وأودع نفوسهم ثلاث خصال؛ كلٌّ منها ركن لوجود الأمم, أما العقائد: فالأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضيّ وأنه أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم, وكل مخالف له فعلى ضلالٍ وباطلٍ، والثالثة: يقينه بأن الإنسان جاء إلى الدنيا كي يكْمُلَ كمالًا يهيئه للعروج إلى عالمٍ أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، وأما الخصال الثلاث: فهي الحياء والأمانة والصدق.
ويبين أن الإسلام يتميز على غيره من الأديان بمزايا عديدة؛ منها: صقل العقول بالتوحيد, وتطهيرها من لوثة الأوهام، ومخاطبة العقول حتى تؤمن, فلا يقبل الاعتقاد بدون دليل، وحرصه على تعليم الأمة ذكورًا وإناثًا.
ولما أخفقت الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر, أبيح له أن يذهب أنَّى شاء في غير بلاد الشرق فاختار أوربا، وزار لندن, ثم انتقل إلى باريس، ووافاه إليها تلميذه الأكبر محمد عبده، وكان منفيًّا ببيروت, وهناك أصدرا معًا جريدة "العروة الوثقى".