للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يد أن توفيقًا لم يف بعهدٍ بعد أن تولى الحكم، وسرعان ما تنكر لمبادئه ولأصدقائه, فلم يدخل نظام الشورى، ولم يحسن معاملة السيد جمال الدين الأفغاني، بل استمع لأقوال الوشاة من الإنجليز وسواهم؛ إذ حرضوه على إخراجه من مصر١ فاستجاب لهم، ولم يكن كريمًا في معاملة هذا العبقريّ الشريف, بل استعمل معه غاية الغلظة والقسوة والجفاف، فسيق إلى دار الشرطة بليلٍ بعد انصرافه من مقهاه بغير غطاء أو فراش، وبات ليلته كما يبيت اللص الأفَّاق على أرض المخفر، ثم هرب إلى السيوس حيث رحلت به سفينة إلى الهند، وهكذا حرمت مصر مصدر خير كبير لها، وجازت هذا النابغة على فضله جحودًا وجفوة.

ومن العجيب أن يضم مجلس الوزارء الذي أصدر أمره بنفيه بحجة أنه "رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعةً على فساد الدين والدنيا" اثنين أعجب بهما وتوسم فيهما الخير: توفيق باشا، والبارودي، وكان ألمه بالغًا غايته للنكسة التي أصابت البارودي، وقد كان يؤمِّلُ فيه كل خير، ويعده ليومٍ عصيبٍ في تاريخ مصر، وقد ظلت هذه الآلام تَحِزُّ في نفسه حتى آخريات حياته, فقد زاره الأمير شكيب أرسلان وهو بالآستانة، ويدور الحديث حول ما روى من أن العرب عبروا المحيط الأطلسي قديمًا, وكشفوا أمريكا بدليل الأهرام الموجودة ببلاد المكسيك، فيقول السيد: "إن المسلمين أصبحوا كلما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه: إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعشاوا في خيال ما فعل آباءهم، غير مفكرين بأن مكان عليه أباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من خمولٍ وضعةٍ، إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان أباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالًا، ولكنكم أنتم أولاد كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلّا أن تفعلوا فعلهم؛ إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم، وهذا محمود سامي الباودي عاهدني ثم نكث معي, وهو أفضل من عرفت من المسلمين".


١ المنار ج٨ ص ٤٠٤ وانظر كذلك The persian: F.G. Browne p.٨ وتاريخ الإمام ج١ ص٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>