المعاني وتحديدها وإبرازها في الصورة اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها, كل مضوع يُلْقَى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صُنْعُ يديه, فيأتي على أطرافه, ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع".
ويقول في موضع آخر: "كان أرباب العلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف إلّا عبد الله باشا فكري، وخيري باشا، محمد باشا سيد أحمد -على ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي، على تخصص فيه، ومن عدا هؤلاء، فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شكالها، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري، لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلّا أخذ عنه, أو عن أحد تلاميذه, أو قَلَّدَ المتصلين به".
وقد مر بك ما تميز به أسلوب هذا النثر في موضوعات الثلاثة: الاجتماع، والأدب، والسياسة.
جمال الدين والثورة:
لم يكن جمال الدين على وفاقٍ مع إسماعيل في أخريات أيامه، بل كان ناقمًا عليه لاستبداده وإسرافه، وتمكينه بسياسته للأجانب في البلاد، وكان يتوهم الخير في توفيق؛ إذ كان يجتمع به وهو وليٌّ للعهد، ويرى ميله للأخذ بنظام الشورى، ونقده لسياسة أبيه وإسرافه، وقد اجتمعا في محفل الماسونية، وتعاهدا على إقامة النظام النيابي.