للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محمد عبده والثورة:

كان محمد عبده يختلف مع جمال الدين في طريقه الإصلاح، فبينما الأول يريد أن تقفز الأمة قفزًا، وتتمتع بالشورى والحرية على يد مجلس نيابي يشرع لها القوانين, وتكون الحكومة مسئولة أمامه، كما تكفل في ظله حرية الفرد الشخصية؛ إذ بمحمد عبده وأصحابه يرون أن الإصلاح لا ينتج إلّا إذا تربت الأمة وتعلم أبناؤها كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم, وأن يسير الإصلاح تدريجًا في كل ناحية، حتى في العادات، "وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها, ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة, فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلّا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون١.

وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادلٍ يحكمه خمس عشرة سنة, يصنع فيها ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا, مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يجملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلّا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه, وإن هذا رأي رياض باشا.

وانقسمت الأمة فريقين، فريق النهضة السريعة والإصلاح العاجل, ويتزعمه شريف باشا, وهو كما صوره محمد عبده "من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة" في رأيه، ومن ألسنة هذا الفريق وأسلحته البتارة أديب إسحق، وفريق يود النهضة البطيئة المتدرجة, ويتزعمه رياض باشا, ويناصره في رأيه محمد عبده٢.


١ من مقالة الأستاذ الإمام تحت عنوان "خطأ العقلاء". انظر تاريخ الأستاذ الإمام, ج٢ ص١٢٣.
٢ كتب محمد عبده مقالات في الشورى, وقد كانت من وحي جمال الدين, ولم يكن مؤمنًا بها, بل كان يرى أن تنشأ أولًَا المجالس البلدية, ثم بعد سنتين تأتي مجالس الإدارة لا على أن تكون آلات تدار, بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار, ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية.

<<  <  ج: ص:  >  >>