للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ظل محمد عبده متمسكًا بسياسة التقرب من الإنجليز والاستعانة بهم حتى آخر حياته، وكان هذا مثار الطعن فيه والغض من شأنه، ولكنه كان يصدر فيه عن عقيدة وجرأة، فقد استُفْتِيَ مرةً في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه "قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة المسلمين" ونسي قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} .

وأمل محمد عبده بعد عودته أن يرجع إلى التدريس بدار العلوم ويتصل بالنشء، ويربي طائفة من الشباب يعدهم للغد، يحملون بعده راية الإصلاح؛ ولكن أبى عليه توفيق ذلك١، وعُيِّنَ قاضيًا أهليًّا، ثم مستشارًا في محكمة الاستئناف، ووجد نفسه في بيئةٍ غريبةٍ عنه, تدل بمعرفتها للغة الفرنسية والقوانين الأجنبية, فدفعته نفسه الطموح إلى أن يكمل هذا النقص، وبدأ يتعلم الفرنسية٣ وهو في سن الأربعين أو ما قاربها، وقد استطاع بعد مدة أن يتقنها, وترجم منها كتاب التربية لسبنسر بعد أن نقل من الإنجليزية إلى الفرنسية، وروى لطفي السيد أن محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض عن عبارات الفيلسوف "تين" في كتابه المشهور عن "الذهن".

وقد رأى الأستاذ الإمام فائدة تعلم اللغة الأجنبية ولمسها, وفي ذلك يقول: "ثم إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته، ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي, إلّا إذا كان يعرف لغة أوربية, كيف لا! وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتكبة مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم, أو للخلاص من شر الشرار منهم؟ "


١ المنار ج٨ ص٤٦٧, وتاريخ الأستاذ الإمام ج٣ ص٢٤٢.
٢ روى أن المعلم أتى له بكتابٍ في قواعد اللغة الفرنسية فقال له: ليس عندي وقت لأن أبتدئ، وإنما عندي وقت لأن أنتهي": قال ناول المعلم كتاب "لألكسندر ديوما" وقال له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلام, وما عدا ذلك فهو عليّ، والنحو يأتي في أثناء العمل, وهكذا أتممت الكتاب، وكتابًا بعده وثالثًا عقبه، وكنت أطالع وحدي بصوتٍ مرتفعٍ كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا, فتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية، وحصلت منها ما يمكنني من القراءة والفهم, ولكن ما كنت أستطيع الكلام".

<<  <  ج: ص:  >  >>