إيذانًا للعلماء بالانصراف، وقد كان لهذا كله أثر في الحملات الشديدة, والمكايد التي دبرها عباس للشيخ وإيعازه للصحافة بالتشهير به, وانتهاز فرصة فتاويه الجريئة ورميه بالكفر والإلحاد، وكلما هَمَّ الخديو بعزله من منصب الإفتاء صرَّح كرومر بأنه لا يوافق على عزله, ومهما كانت الأحوال ما دام موجودًا.
كل هذا ومحمد عبده ماضٍ في مشروعاته الإصلاحية بالأزهر والمحاكم والأوقاف, وكان الحزب الوطني يناوئه ويحمل عليه بشدةٍ لأنه كان يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وكان الإمام يرى أن مصطفى كامل مخطئ في صلته بالخديو؛ لأن عباسًا لم يكن مخلصًا في وطنيته, ولا هَمَّ له إلّا جمع المال وإيداعه بالمصارف الأجنبية خشية أن يعزله الإنجليز فجأةً، وقد قال محمد عبده في وصف مقالات مصطفى كامل:"إنها مجموعة نوبات عصبية بعضها شديد وبعضها خفيف".
والحق أن التباين كان شديدًا بين عقلية الإمام وعقلية الزعيم الشاب؛ من حيث طريقة التفكير واتخاذ الوسيلة، ولا نستطيع أن ندافع عن موقف الشيخ محمد عبده من الإنجليز واعتماده عليهم, إلّا أن الخديو هو الملوم في ذلك؛ لأنه لم يمكِّنْ هذا المصلح الكبير من السير في إصلاحاته، ولأنه أراد أن يلتهم مال الوقف بدون مبرر؛ وفي مال الوقف قسم كبير جدًّا للأزهر، كلما حاول عباس أن يعبث وقف له محمد عبده بالمرصاد، وحب المال ضعف بشري عام، وكان في عباس أضعف شيء فيه، ولكن دفاعنا هذا لا يسوغ لجوء الشيخ إلى خصوم وطنه وخصوم دينه مهما كان الإصلاح المنشود وقيمته، وما كان له أن يستعين بهم حتى لو ظل الأزهر على ما هو عليه، وهل بعد هذه التضحية استطاع أن يصلح الأزهر؟ كلّا! وقد اعترف بإخفاقه.
ولكن هل تقضي هذه الزلة السياسية على كل ما لمحمد عبده من مجد؟ اللهم لا، فقد شاركه في رأيه السياسي حينذاك كثير من زعماء الأمة؛ كسعد زغلول، وفتحي زغلول، وحسن عاصم، ومحمو عاصم، ومحمود سليمان، وسلطان وغيرهم، إلا أنه تعرض للهجمات أكثر منهم؛ لأن الخديو رأى فيه قوة واعتدادًا بالنفس، وعقبةً في سبيل مطامعه؛ فألَّبَ عليه العلماء الرجعيين, والصحافة المأجورة هزلية وجدية.