وهذه كلمات دل على مرارة وألم، وعلى أن الشيخ لم ير في الأزهر وعلومه ورجاله ما يبشر بالنجاح، فليت شعري هل تغير الأزهر كثيرًا منذ محمد عبده حتى اليوم؟!
وتولى محمد عبده منصب الإفتاء في يولية ١٨٩٩، وأضفى عليه وجاهةً دينيةً وجلالًا, وكان في منصبه هذا جريئًا، يصدر الفتاوى التي يرى فيها الجامدون زندقة وإلحادًا، وهو يراها اجتهادًا وتجديدًا وتمشيًا مع روح العصر بما لا يخالف حقيق الدين وجوهره١، ولم تكن العلاقة بينه وبين الخديو عباس طيبة؛ لأن عباسًا يراه مسالمًا للإنجليز مستعينًا بهم, وفي ذلك جرح لوطنية الخديو والتجاء إلى خصومه، وكان الشيخ محمد عبده يعتقد في مهادنة الإنجليز والاستفادة منهم، ويرى في عباس رأيًا آخر, وهو أنه جشعٌ محبٌّ لجمع المال ولو من دماء رعاياه, وقد اصطدم به مرتين؛ أولاهما: حين أراد استبدال أراضي وقف فأبى عليه الشيخ ذلك, ورأى أن هذا الاستبدل ليس في مصلحة الوقف، وحمل مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلّا أذا أُعْطِيَ للوقف عشرين ألفًا من الجنيهات تعويضًا لهم، وثانيهما: حينما أراد الخديو منح بعض رجال حاشيته "كسوة تشريفة" ولم يكن هذا المنح منسجما مع اللوائح، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ أمر الخديو وإعطائها للمستحق، ولما اجتمع العلماء لدى الخديو, وأخذ يؤنب شيخ الأزهر على ذلك, انبرى له الشيخ محمد عبده، وطلب منه إذا أراد التنفيذ أن يغير اللائحة, وينسخ القانون السابق، فاستشاط عباس غضبًا ووقف
١ من ذلك فتوى "الترسنفال" وهي إجابة على ثلاثة أسئلة: أحدها: بقر يضربه النصارى على رأسه بالبلطة حتى تضعف مقاومته, ثم يذبح قبل أن يموت بدون تسمية الله عليه، فهل يجوز أكل لحمه، فأفتى الشيخ بحل هذا اللحم، وكانت للفتوى ضجة؛ لأن علماء الأزهر يقولون هي الموقوذة التي حرَّم الله أكلها, والشيخ يقول: إن الموقوذة التي ضربت بشيء غير محدد كالحجارة والخشب حتى ماتت, وهذه ذبحت قبل موتها، وثانيهما: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال يلبسون القبعات لقضاء مصالحهم، وتمكنهم القبعة من جني بعض الفوائد، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأفتى الشيخ بالجواز, ورأى أن لبس القبعة إذا لم يقصد به الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا، وإذا كان اللبس لحجب الشمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه وتيسير مصلحة لم يكره ذلك، وقد أثارت عليه هذه حملات شديدة من الجهلة وخصومه السياسيين، والثالث: يصلي الشافعي خلف الحنفية بدون تسمية، ويصلون خلفهم العيدين فهل تجوز الصلاة؟ ولم يكن لهذا السؤال ضجة كغيره. راجع تاريخ الأستاذ الإمام ج٣ ص٨٤، ١٦٧، ١٧٩, والجزء الأول ص ٢٦٧, وتجد نص الفتوى في تاريخه ج١ ص٦٤٦ وما بعدها.