وأضيف إلى هذا بالأزهر اليوم وفي كل حين ثروة معنوية عظيمة تضيع هباءً وتوجه وجهةً خاطئةً، ولا تفيد منها الأمة شيئًا، ولو حولت هذه الجامعة الأزهرية إلى جامعة مدنية ينفق عليها من الأموال الموقوفة على الأزهر، ويتعلم الطلبة فيها بالمجان, لما حرمت الأمة من الثروة العظيمة، ولنبغ من أبنائها الطبيب النطاسي، والمهندس الفذ، والرياضي القدير، والصيدلي الماهر، أما الدين فتخصص له طائفة، تسد الفراغ وتلي شئونه من وعظ وإمامة وغير ذلك، لقد اتجه الأزهريون اليوم إلى الوظائف ولم يعودوا يطلبون العلم لذاته كما كان يفعل أسلافهم، فوجب على الأمة والحكومة أن تعدهم الإعداد الصالح لهذه الوظائف, وتتولى شئون الأزهرن بحزم, وتنهض به نهضة تليق باسمه وتاريخه، فيتعلم أبناءه اللغات الأجنبية, فإذا جادلوا في الدين جادلوا بالحجة القوية, وعرفوا مواطن الضعف عند سواهم، وإذا درسوا الفلسفة والمذاهب الحديثة تفتح أمامهم سبل الاطلاع, على أن تتجه جمهرتهم إلى التعليم المدني, وبذلك تفيد الأمة من هذه الثروة المعنوية الضائعة، ومصر بحاجة إلى أكثر من جامعة.
حاول الإمام محمد عبده إصلاح الأزهر، فلم يصلح سوى الشكل من زيادة مرتبات العلماء ووضع لائحة كَسَى التشريف، والامتحان, ومساكن الطلبة، ولكن حين ابتدأ ينظر إلى الدارسة وطرقها والكتب التي تدرس والمناهج, وجد العقبات أمامه جمةً, وأخفق في محاولاته, ونفض يده من الإصلاح، لقد كان كارهًا للطريقة الأزهرية في معالجة الدرس والشروح والحواشي والتقارير وعلك الألفاظ، وقد عرفنا أنفًا كيف كادت هذه الطريقة أن تحرم مصر إمامها ومصلحها، ولقد قال له يومًا الشيخ البحيري مدافعًا في مجلس إدارة الأزهر عن هذه الطريقة:"إننا نعلم الطلاب كما تعلمنا" فقال له الشيخ محمد عبده: "وهذا ما أخاف منه"، فقال البحيري مستنكرًا:"ألم تتعلم أنت في الأزهر, وقد بلغت ما بلغت من مراقي العلم وصرت في العلم الفرد؟! " فأجاب الإمام: "إن كان لي حظٌّ من العلم الصحيح الذي تذكره، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة١".
١ من تقرير الشيخ عبد الكريم سلمان من التعليم في الأزهر.