للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن هيهات أن يرضى أبوه بهذه الدراسة غيرة المنتظمة وهو رجل يكد ويتعب لينال الكفاف, وكان يؤمل أن يرى ابنه عالمًا كبيرًا كهؤلاء الذين يرى الناس يقبلون أيديهم, أو على الأقل يساعده بما تعلَّم من حساب ولغة، فلما بدت هذه النزعة نفض منه يده، وأخذ عبد الله يعول نفسه، وتعلم في الإشارات "التلغرافية"، وأتيح له بعد أن أتقن هذا الفن أن يشغل وظيفة بقصر والدة الخديو إسماعيل بالقاهرة، فشاهد الغنى والجاه، وألوانًا من الحياة والعيش لم يرها من قبل؛ شاهد العز في أوجه، كما عرف الفقر في أبشع صوره من قبل.

وعاوده بالقاهرة حنينه إلى مجلس الأدباء والشعراء, فصار يَجِدُّ في البحث عنهم، فتارةً يذهب إلى الأزهر ويطَّلِعُ على ما أخذ رفقاءه١, وأحيانًا يغشى منازل الأدباء ويتعرف عليهم ويستفيد منهم، فتوثقت صلته بالبارودي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، ومحمود صفوت الساعاتي، والشيخ أحمد الزرقاني، وحمد بك سعيد بن جعفر مظهر باشا الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ٢, وغيرهم من الأدباء أو محبي الأدب، فاتسعت ثقافته الأدبية بهذا الاختلاط، وعرف مزايا كلٍّ منهم، ووقف على فنه، وشاركهم في مجلس أنسهم وطريقتهم ومطارحتهم, فأضاف إلى خزينة أدبه ما وعاه في هذه المجالس من طرفٍ وملحٍ وروايةٍ.

ولكن مقامه بالقاهرة لم يطل؛ إذ زَلَّ قلمه وهو في الوظيفة, فأغضب خليل أغا٣ المشرف على القصر، وناهيك به في ذاك الوقت جبارًا، لا يرد له أمر، وبذلك فقد عبد الله وظيفته، وضاقت عليه القاهرة بما رحبت، فضرب في البلاد هائمًا على وجهه حتى وصل إلى "بدواي" بمديرية الدقهلية، وأخذ يعلم أبناء عمدتها القراءة، لكن هذا العمدة ضَنَّ عليه بالأجر، فثارت ثائرة عبد الله نديم، وأخذ يصوغ في هجاء هذا العمدة ألوانًا مقذعةً من الهجاء, كانت أول ما عرف من أدبه، واكتشف نفسه أديبًا ذا سطوةٍ في القول، حادَّ اللسان, عنيف الخصام, حاضر البديهة.


١ وكان من رفقائه الخلصاء الشيخ حمزة فتح الله.
٢ وقد دبج عبد الله نديم مقالًا في هؤلاء الأدباء, أتى فيه عليهم, ووصف كلًّا منهم ببعض النعوت والمدائح، راجع سلافة النديم ج٢١ ص٣٤.
٣ وهو خصي, كان ذا حظوةٍ عظيمةٍ لدى إسماعيل وأمه، وكانت إشارته حكم, وطاعته غنم, كأنه كافور الإخشيدي أو يزيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>